كنوز نت - بقلم: الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية 

حين يسقط طالب في ساحة المدرسة… أيُّ درسٍ تبقّى لنا؟
بقلم: الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية 

لم يكن صباح كفر قرع ولا وادي عارة ككلّ الصباحات.
ذلك اليوم دخل محمد حسين مرازقة، ابن السادسة عشرة، إلى مدرسته يحمل حقيبته وأحلامه الصغيرة… وخرج منها محمولًا على الأكتاف، جثمانًا طاهرًا ودّع الحياة قبل أن يودّع الطفولة.
طُعن داخل حرم المدرسة — في مكانٍ كان يجب أن يكون الأَأمن والأجمل، لا مسرحًا للجريمة.
أيُّ زمنٍ هذا الذي صار فيه الطالب يقتل الطالب؟
وأيُّ مدرسةٍ تلك التي تفقد أمنها قبل علمها؟
لقد اخترقت السكين قلب المؤسسة التربوية، لا جسد محمد وحده.
فالمدرسة التي وُجدت لتبني الإنسان، غدت تُشيّعه إلى المقبرة… فهل من فاجعةٍ أبلغ من أن يُقتل حلم داخل مدرسة؟
 من المدرسة إلى المقبرة: انهيار المعنى
حين يُقتل طالب في مدرسته، لا يُقتل جسد فقط؛ بل تُغتال فكرة التعليم ذاتها.
ذلك المشهد المروّع ليس حادثةً معزولة، بل جرس إنذارٍ مدوٍّ لمجتمعٍ يتآكل من الداخل.
لقد فشلت التربية قبل التعليم، وضاعت القيم قبل المناهج.
صرنا نعيش زمنًا تُستبدل فيه الكلمة باللكمة، والحوار بالعنف، والعقل بالغضب.
جيلٌ يرى في العنف لغةً مفهومة أكثر من الكلمة، وفي الغضب رجولةً أكثر من الصبر.
محمد لم يمت وحده.
ماتت معه براءة الصفوف، وهيبة المعلّم، وثقة الأهالي بأن أبناءهم يعودون آمنين.
كلنا قُتلنا معه — نحن الذين صدّقنا أن المدرسة بيتٌ للعلم لا ساحة للدم.
 جذور الأزمة: عندما يصمت البيت وتغيب القدوة
لا يجوز أن نُحمّل الطالب القاتل وحده المسؤولية، فالجريمة ابنةُ منظومةٍ فاشلة لا فردٍ واحد.
في خلفية هذا المشهد المؤلم تقف عوامل مركّبة:
البيت الذي فقد دفء الحوار، وغاب فيه الإنصات، فكبر الأبناء في فراغٍ عاطفيّ خطير.
المدرسة التي انشغلت بالامتحانات وأهملت بناء الإنسان.
الإعلام الذي مجّد العنف في الأفلام والألعاب ومواقع التواصل حتى صار العاديّ هو المروّع.
المجتمع الذي يبرّر الغضب باسم “الكرامة” و”الرجولة” و”الحقّ”، فيغرس في الصغار منطق الانتقام لا التسامح.
الفراغ الروحي والقيمي، الذي جعل من المراهق قنبلةً تبحث عن سببٍ لتنفجر.
 من التشخيص إلى البناء: حلول جذرية غير تقليدية
لن تُجدي لجان التحقيق ولا عبارات الشجب.
ما نحتاجه ليس ردة فعل، بل ثورة تربوية شاملة تبدأ من النفس وتمتد إلى المجتمع.
1. منهاج المشاعر:
نحن نعلّم أبناءنا الرياضيات والعلوم، لكننا لا نعلّمهم كيف يتعاملون مع الغضب والحزن والغيرة.
نحتاج إلى مادة تربوية إلزامية اسمها “منهاج المشاعر”، تُدرّس في كل المراحل، ليتعلم الطفل أن يفهم ذاته قبل أن يؤذي غيره.
2. مجلس الحوار الأسبوعي:
كل مدرسة يجب أن تُخصّص ساعة أسبوعية للحوار المفتوح بين الطلبة والمعلمين والآباء — بلا كتب ولا علامات.
فيها يتحدثون عن الخوف، والإحباط، والعلاقات، والتنمّر، والحبّ.
فالكلمة التي تُقال قبل الانفجار… تُنقذ حياة.
3. القدوة الحيّة:
ندعو الأطباء والمبدعين والأمهات المكافحات إلى لقاء الطلبة، ليحكوا قصصهم الواقعية عن الصبر والنجاح.
هكذا يُستبدل “نموذج البطل العنيف” بـ “نموذج الإنسان الحقيقي” الذي يواجه الحياة بالعلم لا بالعنف.
4. مراكز الإصلاح السلوكي المجتمعي:
تُقام داخل البلدات بإشراف أخصائيين نفسيين ومعلمين وأئمة، لمتابعة الطلبة ذوي السلوك العدواني مبكرًا، وإعادة تأهيلهم بدل معاقبتهم.
5. إعادة تعريف النجاح:
يجب أن يتغيّر مفهوم “التفوّق” في المجتمع؛ فالتفوق ليس بالعلامة وحدها، بل بالسلوك، بالأدب، بالضمير.

لننهِ عصر الطالب “الذكي المؤذي”، ولنحتفِ بالطالب “الطيّب المتزن”.
خاتمة: علّموا أبناءكم الحُبّ قبل الحُكم
إن لم نزرع في أولادنا حبّ الحياة والناس، فسنبقى نحصد الكراهية في كل زاوية.
المدرسة التي تُخرّج إنسانًا رحيمًا، خير من مدرسة تخرّج متفوّقًا بلا قلب.
لنعد تعريف التربية، فهي ليست تلقينًا… بل إنقاذٌ للروح.
ولنجعل من دم محمد آخر دمٍ يُراق في ساحة مدرسة، لا بدايةً لمأساةٍ جديدة.
رحم الله محمد حسين مرازقة،
ورحم فينا ما تبقّى من إنسانٍ في هذا الإنسان.