كنوز نت - ‏بقلم :د. عادل جوده / العراق


‏ قراءة أدبية تحليلية في كتاب سفر الأمهات الثلاث للكاتبة رانية مرجية
‏بقلم :د. عادل جوده / العراق
‏في عالمٍ تتقاطع فيه الأسطورة بالذاكرة، والضوء بالعتمة، والأنوثة بالكون، تولد رواية «سفر الأمهات الثلاث» بفصولها الاربعة كأيقونةٍ سرديةٍ تنسج خيوط الخلق من جديد، لتعيد ترتيب معنى الوجود في ضوء الأمومة الأولى — أمومة النور والذاكرة والغفران. لا تُقدَّم الرواية كحكاية زمنية تسير على خطٍّ مستقيم، بل كسِفرٍ مقدّسٍ يدوّن أصل الحياة بلغةٍ رمزية تُشبه تراتيل الخلق الأولى.
‏تبدأ الكاتبة رانية فؤاد مرجية من لحظةٍ كونيةٍ تتجاوز المفهوم الديني أو التاريخي، لتصوغ رؤيتها حول الوجود من خلال ثلاث نساءٍ أسطوريات: لورا، نُهى، ومارا — رموزٌ للإنسانية في تجلياتها الثلاثة: البصيرة، الذاكرة، والغفران.
‏فـ«لورا» هي أمّ النور، التي تمثّل الوعي والبداية، ولعلها تجسيدٌ لفكرة الإدراك الأولى التي منحت العالم القدرة على الرؤية. إنّها العين التي أنارت الوجود، والشرارة التي أيقظت المعنى من ظلمة العدم.
‏أما «نُهى»، أمّ الذاكرة، فهي حارسة الماضي، التي تذكّر الإنسان بأصله، وتربطه بحكايته الكبرى، كأنها الوعي الجمعي الذي يمنح الزمن معنى. هي الذاكرة التي تحفظ الاسم والدمع والصوت، فتجعل من الإنسان كائناً يعرف أنه كان.
‏وأخيرًا، «مارا» — أمّ الغفران، التي تُنقذ الإنسان من نفسه، وتعيد إليه سلامه الداخلي بعد الخطيئة. إنها الرحمة التي تغلق دائرة الألم لتفتح باب الخلاص، فتغدو الغاية الأسمى للوجود الإنساني.
‏بهذا التقسيم الرمزي، تخلق المؤلفة ثلاثية فلسفية تعيد قراءة أصل الإنسان من منظورٍ أنثويٍّ كونيّ، لا يرى المرأة مجرد كائنٍ تابع، بل جوهر الوجود نفسه. إنّ الأمومة هنا ليست فعل ولادة بيولوجيّ، بل طاقة خالقة، نابعة من رحم الكون، توازن بين النور والظلمة، وبين الفناء والبعث.
‏كلّ واحدةٍ من الأمهات الثلاث تحمل جانبًا من الذات البشرية، فحين يرى الإنسان النور، يتذكّر، وحين يتذكّر، يغفر، فتكتمل دائرته الوجودية.
‏الرواية تكتب بلغةٍ شاعريةٍ عالية الإيقاع، تُشبه الشعر في انسيابها وعمقها الرمزي. لا تسعى الكاتبة إلى تقديم أحداثٍ أو حبكةٍ تقليدية، بل تنسج نسيجًا من التأملات الفلسفية والمشاهد الرمزية التي تتنقّل بين العوالم: عالم الأرض، وعالم الروح، وعالم النور. إنها كتابة تتجاوز السرد إلى التأمل، وتجعل من النص تجربةً روحية أكثر منها قراءة فكرية.
‏الجُمل قصيرة، مكثفة، متوهّجة، تحمل ما يشبه الوصايا القديمة أو مقاطع الكتب المقدسة، ما يمنح النص بعدًا صوفيًا عميقًا، يُذكّرنا بأعمال مثل «النبي» لجبران خليل جبران أو «الأجنحة المتكسرة» ولكن بلغةٍ أكثر أنثوية وكونية.
‏تبدو رانية فؤاد مرجية في هذا العمل كمن تستحضر طاقة الأنثى الكبرى — الإلهة الأم في الميثولوجيا القديمة — لتعيد إليها حضورها المفقود في الفكر الذكوري. فالمرأة هنا ليست الهامش، بل الأصل؛ ليست الضحية، بل الينبوع الذي ينهل منه كل شيء.

‏وهي بهذا تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون، بين الخطأ والغفران، بين الظلام والنور، في دائرةٍ لا تنتهي، تذكّرنا بأنّ الحياة ليست خطًّا من البداية إلى النهاية، بل حركةٌ أبدية من الانطفاء إلى الاشتعال، ومن الموت إلى القيامة.
‏أحد أجمل ما في النص هو قوله: «لم نُخلَق لنعرف النهاية، بل لنتعلّم كيف نبدأ دون خوف».
‏هذه العبارة تُلخّص جوهر الرواية: الإنسان ليس كائنًا يبحث عن نهاية، بل عن معنى.
‏والمعنى لا يُكتشف في الموت، بل في شجاعة البدء من جديد.
‏إنها دعوة فلسفية إلى التحرّر من ثنائية الخطيئة والعقاب، والعودة إلى جوهر الوجود القائم على الرحمة — تلك التي تجسّدها «مارا» في نهاية السفر حين تغفر للأرض وللإنسان معًا.
‏الرواية ليست فقط تأملاً ميتافيزيقيًا، بل أيضًا نقدٌ ناعم للتاريخ الذي كتبه الرجال، حيث تحاول الكاتبة أن تعيد كتابة التاريخ «بالحروف التي أُقصيت»، لتقول إنّ الخلق كان مشتركًا، وإنّ الأنثى كانت دومًا النصف الخفي من النور.
‏وهذا ما يجعل الكتاب يوازن بين الفلسفة والشعر، بين الأسطورة والواقع، في نصٍّ يشبه صلاة طويلة تمتد من فجر الكون إلى فجر الروح.
‏في «سفر الأمهات الثلاث»، تتحوّل الأرض إلى قلبٍ نابض، والإنسان إلى سؤالٍ أبديّ، والأنوثة إلى جسرٍ بين الغيب والحضور. إنه نصٌّ يُقرأ ككشفٍ داخلي، وكأنّ القارئ يمرّ من خلال مرايا ثلاث:
‏في الأولى يرى النور، في الثانية ماضيه، وفي الثالثة خلاصه.
‏كلّ امرأةٍ في النص هي مرآة للآخر، وكلّ فصلٍ هو ولادة جديدة للمعنى.
‏إنه ليس «سفرًا» بمعنى الرواية، بل سفر روحيّ يذكّرنا بأنّ الخلق مستمرٌّ في كل نفسٍ نأخذه، وأنّ الإنسان لا يُعيد كتابة التاريخ فحسب، بل يشارك في كتابته من جديد كلما أحبّ أو سامح أو غفر.
‏هكذا، يصبح السفر سفرًا فينا، لا في الزمن؛ ويغدو الضوء الذي ترويه لورا هو النور الكامن في داخلنا، الذي ينتظر أن يُستيقظ.
‏في الختام:
يمكن القول إنّ «سفر الأمهات الثلاث» هو عملٌ فريد في الأدب العربي المعاصر، يجمع بين الرؤية الصوفية، والعمق الأنثوي، واللغة الشعرية، ليقدّم نصًّا يتجاوز حدود الرواية إلى فضاء التأمل الكوني.
‏إنه مرآةٌ تذكّرنا بأنّ الرحمة ليست فعل ضعف، بل قمة القوة، وأنّ الأم — في رمزية الكاتبة — ليست فقط من تُنجب الجسد، بل من تُنجب الضوء والمعنى.