
كنوز نت - مصطفى معروفي
عبد الحميد الديب
مصطفى معروفي
ـــــــ
عبدالحميد الديب(1898 ـ 1943) شاعر مصري عاش الحياة صعلوكا بمعنى عاش البؤس والشقاء، ومع ذلك أصر على قرض الشعر، ربما لأنه كان يرى متنفسا يساعده على تحمل واقع لا يرحم الأشخاص ممن يعيشون نفس ظروفه وحالته.
ولد عبد الحميد الديب في قرية كشميش بمحافظة المنوفية بمصر، التحق بكتاب القرية، وبعد فترة التحق بمعهد الإسكندرية الديني ليواصل تعليمه الأزهري، وحصل الديب عندئذ على دواوين شعراء كبار كالمتنبي، فروى ظمأه الشعري منهم، ومن ثم لمس في نفسه ميلا إلى الشعر، فاتخذه وسيلة للتعبير به عن وضعه البائس.
لم يكن لعبدالحميد بيت يسكنه، ولكن الأقدار ساقته إلى أن يسكن غرفة في بيت قديم كان ثمن كرائه ضئيلا جدا، ومع ذلك كان عبدالحميد يعجز عن دفعه لمالك الغرفة، هذا المالك الذي كلما رأى الديب في الغرفة وهي بدون أثاث، أصيب بالهلع، يقول الديب مصورا لحاله في تلك الغرفة البائسة:
أفــى غرفتي يا رب أم أنا في لحدي
ألا شــد مــا ألــقى من الزمن الوغد
وهــل أنــا حــي أم قــضيت وهــذه
إهــابــة إســرافيل تــبعثني وحــدي
لــكم كــنت أرجــو غــرفة فأصبتها
بــناء قــديم الــعهد أضيق من جدّي
فــــأهــدأ أنــفــاسي يــكــاد يــهــدّها
وايــسر لــمس فــي بــنياتها يــردي
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها
فــأرجله امضى من الصارم الهندي
تــســاكنني فــيها الأفــاعي جــريئة
وفي جوها الأمراض تفتك أو تعدي
تــراني بــها كــلّ الأثــاث فمعطفي
فــراش لــنومي أو وقــاء مــن البرد
وأمـــا وســاداتــي بــهــا فــجــرائد
تــجدد إذ تــبلى عــلى حــجر صــلد
تــعلمت فــيها صبر أيوب في الضنا
وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
جـــوارك يــا ربــى لــمثلي رحــمة
فــخذني إلــى الــنيران لا جنة الخلد
ولم يكتف الديب بوصف غرفته تلك , بل قام بوصف صاحبها المالك لها قائلا فيه:
يمر على سكناي في ذيل بيته
مــرور الموسرين على الفلس
تــكــبّر فــالألفاظ مــنه إشــارة
كأن عباد الله طرا من الخرس
ياطلبني بالأجر في غيظ دائنٍ
تصيّده المحتال بالثمن الوكسِ
ويحكي الشاعر ما قاله المالك عندما رأى أن لا شيء في الغرفة:
أراك بـــها كــــل الأثـــــاث ولا أرى
سوى قلم ثاوٍ على الأرض أو طرسِ:
ويضيفالشاعر:
فقــلــــت له هــــــذي جدودي كما ترى
فما مسكني في البيت بل أنا في رمسِ
ومما يلفت النظر في شخصية الديب أنه رغم فقره المدقع فقد كان معتزا بنفسه يرفعها إلى أعلى عليين، تأمل معي قوله:
بــينَ الــنجومِ أنــاسٌ قــد رفــعتُهُمُ
إلــى الــسماءِ فسَدّوا بابَ أرزاقي!
وكنتُ «نوحَ» سفينٍ أرسِلتْ حرمًا
لــلــعالمينَ فــجازَوْني بــإغراقي!
ورغم مرور الديب بالفقر والبؤس ومعاناة الحرمان والأمراض العقلية فإنه لم يتمرد على القدر كما هو الحال في آخر أيامه، بل رضي بما هو مكتوب ومقدر له، واطمأن إلى أن الخاتمة ستكون على ما يرام:
تــبتُ مــن ذنبي ومن ترجع بهِ
نــفــسُــهُ لــــلــهِ يــبــعثهُ تــقــيّا
تــوبة مــن بــعد أن فــزتُ بــها
كــلُ شيءٍ صار في عيني هنيّا
فــتراني فــي السمواتِ العُلى..
أصحبُ الشمسَ وتعنو لي الثُريّا
ولـــدى ســدرتها فــي مــوكبٍ
مـــا حــوى إلا مــلاكًا أو نــبيّا
مات عبد الحميد بسبب انفجار في المخ، وبذلك يكون من آخر الصعاليك الذين عرفهم عصرنا الحاضر، مات الرجل وكان الأحرى بمجتمعه أن يرعاه ويصون كرامته تقديرا لموهبته الشعرية العالية، ولكن على رأي السيد المسيح:"لا كرامة لنبي في وطنه".
اللهم اغننا بفضلك عمن سواك،يارحمن يا رحيم.
ــــــــــــــ
إشارة:
كان عبد الحميد الديب من أصدقاء المرحوم المطرب السيد درويش.
25/10/2025 07:45 am 41
.jpg)
.jpg)