
كنوز نت - بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
الحب الناضج: حين تلتقي الأرواح دون رغبة في الامتلاك:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
في زمنٍ تتكالب فيه العواطف العابرة، وتُستبدل فيه القلوب كما تُستبدل الثياب، يظل الحب الناضج حدثاً نادراً، كزهرة تنبت في صحراء الروح، وكشمسٍ لا تشرق إلا على قلوبٍ عرفت طريقها إلى ذاتها أولاً.
فالحب الحقيقي لا ينبت في تربة القلق والتعلق، ولا ينمو تحت ظل الامتلاك، بل يحتاج إلى فضاءٍ رحب من النضج النفسي والروحي، حيث يُرى الآخر كقيمة لا كغنيمة، وكذاتٍ مستقلة لا كفرع تابع.
_ النضج شرط الحب لا نتيجته.
يُخطئ من يظن أن الحب هو الذي ينضّج الإنسان، فالواقع أن النضج هو شرط الحب النقي، لا نتيجته. فالشخص غير الناضج حين يحب، يخلط بين الحب والامتلاك، بين العاطفة والأنانية، فيرغب في الآخر لا كما هو، بل كما يُريده أن يكون. يريد أن يشكّله، أن يعيد صنعه، أن يذوّبه في ذاته. وهنا يموت الحب خنقاً لا نضوباً.
أما الناضج، فهو الذي يحب دون حاجة إلى التملّك. لا يغار من حرية الآخر، بل يراها امتداداً لكرامته. لا يطلب من شريكه أن يُغيّر نفسه ليرضيه، بل يُدرك أن الحب هو لقاء بين اختلافين، لا انصهاراً بين مرآتين. هو من يعترف أن الآخر ليس ظلاً له، بل ضوءاً يكتمل به النور.
الحب الناضج هو احترام قبل أن يكون شغفاً.
نعم، الشغف قد يولّد الحب، لكنه لا يضمن استمراره. أما الاحترام، فهو الجذر العميق الذي يشدّ العلاقة إلى الأرض دون أن يمنعها من التحليق.
في الحب الناضج، يُصبح الاحترام المتبادل لغة صامتة: أن تُصغي إلى وجع من تحب، لا لتردّ، بل لتحتويه. أن تعترف باختلافه دون أن تنقض جوهره. أن تُفسح له في قلبك دون أن تضيّق عليه الخناق باسم الغيرة أو الحماية أو الخوف.
الحب الناضج لا يخاف الوحدة.
من أبرز سمات الحب غير الناضج أنه ينبع من خوفٍ داخلي من الفقد والوحدة. هو ليس حباً بقدر ما هو استنجاد. يريد الآخر ليملأ فراغه، ليغلق ثقوب الذاكرة، ليمنحه هوية. بينما الناضج لا يخاف أن يكون وحيداً، لأنه لا يشعر بالنقص في غياب الآخر، بل يشعر بالاكتمال في حضوره.
الحب الناضج يقول: "أنا أختارك، لا لأنني لا أستطيع العيش بدونك، بل لأنني أستطيع العيش وحدي، ومع ذلك أُفضّل أن أعيش معك".
ليس تبعية، بل شراكة.
الحب الناضج ليس علاقة رأسية، فيها تابع ومتبوع، آمر ومأمور، قوي وضعيف، بل هو تعاقد وجداني بين متساويين، كل منهما يعرف قيمته ويعترف بقيمة الآخر. كل منهما يقف بجانب الآخر، لا فوقه ولا خلفه.
إنه كرقصة متناغمة، يعرف فيها كل طرفٍ متى يتقدّم، ومتى يتراجع، ومتى يصمت، ومتى يُغنّي.
_ الحب الناضج لا يُضعف، بل يُحرّر.
في الحب الناضج، لا يشعر الإنسان أنه فقد نفسه، بل أنه وجدها. لا يشعر بأنه يذوب في الآخر، بل يزدهر بجانبه.
هو حبّ يرتقي بالنفس لا يُهينها، يبني الثقة لا يهدمها، يُنمّي الفرد لا يُسجنه داخل وهم الثنائية.
هو حبّ يُشبه الضوء: لا يُؤسر ولا يُختزن، لكنه يملأ القلب دفئاً والروح إشراقاً.
في الختام:
الحب الناضج ليس وهماً رومانسياً، بل فضيلة إنسانية، وارتقاء داخلي، ورحلة طويلة تبدأ من حب الذات دون نرجسية، واحترام الآخر دون تبعية.
هو كالنهر الذي لا يسأل الأرض أن تتشكل على مقاسه، بل ينحني لها ليمضي مع تضاريسها. هو عطاء لا يُقايض، ووجود لا يُلغى، وصوتٌ يقول في صمت:
"أنا لا أريد أن أمتلكك… أريد فقط أن أرافقك، حيث تكون أنت، وتكون أنا."
21/07/2025 02:26 pm 26