كنوز نت - بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.


المثاقفة المستحيلة: عن مجتمعٍ يتأخّر عن ذاته:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
في مجتمعاتٍ لم تلتحق بعدُ بركب لحظتها التاريخية، يظلُّ الآخر المتقدّم بمثابة صدمةٍ دائمة، تُحيل الذات إلى ردود فعلٍ غريزية لا تتجاوز دهشة البدائي أمام الأدوات المعقّدة. لا يعود الآخر هنا موضوعاً للتأمل أو الفهم، بل يتحوّل إلى مرآةٍ تعكس عجز الذات عن التفاعل الخلّاق، فتقع في حبائل التكرار والانبهار المَسلوب، حيث لا مثاقفة حقيقية تُبنى، بل مجرد محاكاة مشوهة، تَحْرُم الفعل الثقافي من ديناميّته الأصلية: الأخذ والعطاء.
_ أسر التأخّر: ذاتٌ تتسابق مع ماضيها
في مثل هذا السياق، يغدو الماضي لا تراثاً يُستنبت منه المعنى، بل سجناً تاريخياً يحول دون انبثاق الحاضر. فالذات التي لم تحسم صراعها مع تقاليدها المتكلّسة، تبقى أسيرة لتوازنات قِيَمية هشة، ترى في الحداثة تهديداً أكثر من كونها فرصة. فتسارع إلى التهام مظاهرها الخارجية دون التعمق في بنيتها الجوهرية، آخذةً من الآخر ما تظنه "تمثلاً"، بينما لا تنتج سوى تقليد أجوف، لا روح فيه ولا ملامح.
يقول الفيلسوف بول ريكور في معرض حديثه عن العلاقة بالآخر: "إننا لا نكون ذواتاً حقيقية إلا في حضور الآخر بوصفه سؤالاً لا غنيمة". لكنّ المجتمعات المتأخرة تاريخياً تتعامل مع الآخر بوصفه فريسة أو كنزاً يجب نهبه، لا خطاباً يجب التحاور معه. من هنا، تغيب المقابلة، ويتعطّل التبادل، ويتحوّل الفعل الثقافي إلى نهب رمزي لا ينتج إلّا ضموراً وانحلالاً في المعنى.
_ الثقافة بوصفها تفاعلاً لا تراكماً

ليست الثقافة في جوهرها تراكماً ميكانيكياً لمنتجات الآخر، بل هي قدرة على استيعاب الغريب وتحويله إلى جزءٍ من الذات دون تدمير الخصوصية. وهذا لا يحدث إلا حين تكون الذات واثقة من هويّتها، عارفة بجراحها، وقادرة على الإصغاء النقدي. أما الذات المأزومة، فتكتفي بـ"الاقتباس" دون مساءلة، و"النسخ" دون إبداع، مما يخلق ظاهرة الانفصام الثقافي بين الشكل والمحتوى، بين الحداثة الملبوسة والوعي ما قبل حداثي.
وهنا يظهر الفرق الجوهري بين المثاقفة والتقليد: فالمثاقفة سيرورة حوارية متبادلة، تبدأ من الاعتراف المتبادل بالوجود والقيمة، بينما التقليد فعل اختزالي يُفرغ الآخر من معناه، ويحوّل منتجه إلى صنم عصري يُعبد بلا فهم.
_ علّة العلل: التماهي الزائف.
إن العلّة الأساس في تعثّر الفعل النهضوي تكمن في تماهي الذات مع الآخر دون أن تمر بمرحلة الوعي بذاتها أولاً. تندفع مجتمعات التأخر التاريخي نحو مظاهر التقدم اندفاع المراهق نحو المرايا، مدفوعة بشهوة التغيير السريع، دون أن تدرك أن الفعل الحضاري لا يتم إلا بـنقد الذات أولاً، ثم لقاء الآخر ثانياً، لأن التقدّم ليس تقنيّة تُستورد، بل عقل يُعاد بناؤه.
وما يُعقّد المسألة أكثر هو اللبوس الزائف الذي يرتديه التقليد المعاصر: فهو لا يظهر اليوم على هيئة انغلاقٍ ديني أو قبلي كما في الماضي، بل يتزيّن بمظهر الحداثة – تعليم، جامعات، مؤتمرات، مصطلحات – لكنه يخلو من الروح المؤسِسة للحداثة: العقلانية، النقد، الحرية، والمسؤولية الفردية.
خاتمة: في الحاجة إلى قطيعة الخضوع.
لن تولد مثاقفة حقيقية إلا حين تتحرر الذات من عبودية التقليد، لا لترتدّ إلى الانغلاق، بل لتؤسس لقوة الأخذ بوصفها امتداداً للعطاء. فالمثاقفة ليست فعلاً استهلاكياً، بل هي مخاض معرفي يبدأ من الداخل، من نقد الذات، ثم بناء مشروع فكري يستطيع أن ينظر إلى الآخر دون خوف، وإلى نفسه دون زيف.
ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم:
هل تستطيع الذات العربية أن تتجاوز تقليديّتها المقنّعة بالحداثة، لتدخل في حوارٍ حقيقيّ مع الآخر؟ أم ستظلّ تدور في دوّامة التكرار، أسيرة زمن لم يعد لها؟