كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


حين يعلو الإنسان على البنيان: رحلة في جوهر الكينونة"
بقلم: رانية مرجية
ثمة شعوب تفرح إذا ارتفعت الأبراج وتباهت إن تزينت مدنها بالخرسانة والحديد والزجاج، لكنها في الوقت ذاته تُهدم من الداخل؛ تُهزم في إنسانها، وتُقهر في ذاتها. وكأنها نسيت — أو تناست — أن الحجر لا يحمل وجدانًا، ولا ذاكرة، ولا كرامة... أما الإنسان، فكل حجر دونه رماد.
إن العبارة الخالدة: "بناء البشر أهم من بناء الحجر"، ليست شعارًا عابرًا يعلَّق في خطابات السياسيين أو على جدران المؤتمرات، بل هي صرخة وجودية تختصر فلسفة الحياة برمتها. فما جدوى أن نرصف الطرقات ونرفع الأبراج إن كانت القلوب خاوية من المعنى، والعقول مشلولة عن التفكير، والأرواح تئن تحت وطأة القهر واللاجدوى؟
الإنسان: الكائن المُمزق بين المظهر والجوهر
لقد باتت حضاراتنا الحديثة مسكونة بهوس البناء، لكنها تغض الطرف عن البناء الأهم: بناء الوعي، بناء الأخلاق، وبناء إنسان يرى نفسه لا كوسيلة، بل كغاية.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف نُقاس كمجتمعات؟ هل نُقاس بارتفاع ناطحات السحاب، أم بقدرتنا على احتواء الإنسان حين يسقط؟ هل نُقاس بعدد الجسور التي نُشيّدها بين الضفاف، أم بعدد الجسور التي نبنيها بين الأرواح الجريحة؟
البناء الداخلي: حيث تبدأ الحضارة
حين نتأمل واقعنا العربي، نجد كثيرًا من "البنيان"، وقليلًا من "البناء". أطفال يولدون في أحياء لا تعرف معنى الدفء العاطفي، وشباب يُربّون على الحفظ لا على السؤال، ونساء يُقمعن باسم العادات، وشيوخ يُهملون بعد سنّ العطاء.
فأين هو البناء الحقيقي؟
الإنسان لا يُبنى بالإسمنت، بل بالكلمة، بالحُب، بالحرية، بالعدالة، بالكرامة.
نحتاج إلى مدارس تُنبت الفكرة لا تحفظ المنهاج، إلى إعلام يُعلي صوت الحق لا يُروّج للزيف، إلى عائلات تحتضن لا تُلقّن، إلى أنظمة ترى في الإنسان ثروة لا عبئًا.
البناء النفسي أولًا
كم من البشر يعيشون في قصور فاخرة وقلوبهم خرائب؟
وكم من البسطاء يسكنون غرفًا ضيقة وأرواحهم فسيحة كسماء الصيف؟
إن البناء الحقيقي يبدأ من الداخل، من النفس. فالنفس المتصالحة مع ذاتها تبني عالمًا أكثر عدلًا، وأكثر سلامًا. أما النفس الجريحة، المحطمة، المهانة، فهي تُعيد إنتاج الخراب أينما ذهبت.
فلنبدأ من هنا. من الطفولة. من إصغائنا لطفل يسأل: "لماذا لا يُحبني أحد؟". من مواطن يشعر أن وجوده مهم. من شابة تُعامل ككائن حرّ لا كظلّ للرجل.
هذا هو البناء الذي لا يهتز، وإن تهدمت المدن.

الإنسان هو المعجزة الوحيدة
في كتاب الوجود، لا توجد معجزة أعظم من الإنسان حين يُحب، حين يُفكر، حين يُسامح، حين يتمسك بكرامته ولو على رصيف منسي.
فلنعد ترتيب الأولويات:
نبني إنسانًا حرًّا، فنضمن مستقبلًا نقيًّا.
نرعى عقلًا، فنصنع حضارة.
نحترم ضعف إنسان، فنقوي مجتمعًا.
خاتمة:
ليت القادة والمهندسين وأصحاب القرار، ينظرون يومًا في مرآة الإنسان، لا في انعكاسات الزجاج والمعدن.
فبلا إنسان حر، لا وطن
بلا إنسان سليم، لا مدينة
بلا إنسان عادل، لا عدالة
وإن كانت الحضارات تبدأ من العمران، فاعلموا أن الإنسان هو البنيان الأول.
فلنُعِد الاعتبار له... قبل أن يُصبح الحجر أحنّ من البشر.