كنوز نت - خالدية أبو جبل
الجليل الفلسطيني

قراءة في رواية " يس" للشاعر والروائي الفلسطيني المرحوم أحمد أبو سليم
 رواية " يس" | الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينين بدعم من وزارة الثقافة بيت لحم
رام الله - فلسطين
عدد صفحاتها 244 من الحجم الوسط
لوحة الغلاف: صورة من مجزرة دير ياسين
معالجة الصورة : الفنان أحمد داري
لوحة تبوح بما يعجز عنه الكلام
تقرأ فيها هول الفاجعة وصدمة المفاجأة وحضور الرعب
والتحقق إن كان ما يحدث واقعًا أم كابوسًا غزا هدوء الليل وسَتْرِهِ
ومما زاد في قتامة غيوم هذه اللوحة وأعطاها ابعادًا أخرى، أن الناظر إليها يرى فيها اليوم والأمس والغد، فالدم الفلسطيني نهر دائم الجريان منذ ما يقارب القرن أو يزيد، والحديث هو الحديث وما من جديد، اللهم سوى تطور أداة القمع والقتل والتشريد، وأن الصورة التي كانت تحتاج للحيلة والتهريب لتصل
العالم، باتت اليوم تصله ببث حي ومباشر من أرض المقتلة، وطبعًا يبقى العالم صامتًا منتظرًا، حتى يختلط التراب بالاسمنت والشجر والحجر والبشر، ليّهُبّ متبرعًا بالخيام والأكفان وأفخاخ أكياس الطحين.
العنوان: جاء العنوان جامعًا لمكوّن الفاعل، حيث حمل اسم شخصيتين رئيسيتين في الرواية. ياسين الخال
وياسين الطفل،الراوي
ولمكوّن المكان حيث يدل على مكان الحدث الأهم ،بلدة دير ياسين
الفلسطينية.
ومكوّن الزمان: حيث يعود الى تاريخ مذبحة دير ياسين، فالعنوان مشدود إلى اللحظة الزمنية التاريخية التي حدثت فيها المجزرة وهي تاريخ بدء حرب ال٤٨.
وقد وضع أبو سليم العنوان وقد حدّد قصديته بمساعدة دلالة 1 تاريخية.
البداية: انطلق السرد من منطقة ثابته
ثم تشعبّ في نسيج غامض واهمًا بأنّه يتحدث من بؤرة الحاضر،
إذ وَضع القارئ أمام مشهديّة رافقها
اشتعال لغوي، عادت به إلى الحقل الواقعي، بما شمل من أحداث دينامية تُشير إلى فيّضٍ من الأحداث الحركيّة المأساوية، وقد أخذ تفاعل الإحساس بالأزمة داخل الشخصيّة يؤثر على مسار الأحداث، خصوصًا عبر ملاحظة العلاقات المتولدة عن هذا التفاعل، وهي تُبيّن
مدى التمزق وعنصر عدم التلاؤم واللاتواصل مع العالم، او التواصل المريض المزيّف معه.
" كان الموت فيّ، عليّ، بيني وبيني
كان الموت أنا، وكنت أنا الموت...
يكتب خالي" ص40
رغم فظاعة هذه الصورة إلّا أنها قد تكون ألطف الصور الآتية من محرقة دير ياسين، وقد تكون ألطف الصور القادمة من المجازر التي تلت دير ياسين ...
ولم يجعل السارد الآية القرآنية من سورة يس" وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"
والتي حاورت النص باقتدار -لم يجعل منها لازمة يُعاود تكرارها كلّ حين إلا لغاية في نفسه الّحت عليه
بالسؤال ، لماذا لم تحمِّنا الآية من موت بأبشع ما يكون عليه الموت؟
وهذا يقودنا لأسئلة أخرى، هل وُجِدَ القرآن لنتخذه تعويذة وحُجبًا؟
أيكفي أن نختبئ خلف ظلالنا ونقرأ
هذه الآية وآية الكرسي من سورة البقرة والمعوذات الثلاث، لتكُّف عنا شر العدو ؟ وهل بها وحدها نهزمه؟
ألم يأت في القرآن الكريم ما يرشدنا
سواء السبيل؟
وكيف هي قراءتنا وكيف هو إدراكنا للآية 60 من سورة الأنفال والتي خاطب الله تعالى بها المؤمنين
بالأمر" وأعدّوا لهم ما استطعتُم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدّو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يًعلّمهم......"
أين نحن من هذه الآية ووضوح دلالتها؟ الّا يعمل ملوك النفط على إحباط مشروع كلّ من تسول له نفسه بإعداد العدّة بالتعاون مع أذرع صهيوأمريكية ؟
" بن غوريون الذي أعلن قيام دولة إسرائيل، كان علمانيًا ملحدًا، مع أنه قضى مراحل تعليمه الأولى في إحدى المدارس الدينية اليهودية
حيث درس التوراة والتلمود وكُتب الصلوات المختلفة، وبدهائه استطاع
بمساعدة الحركة الصهيونية،تحويل المفاهيم الدينية اليهودية إلى شعارات سياسية طوّعها في تأسيس العديد من المؤسسات والأحزاب الصهيونية، وقد أصرّ على إضافة كلمة "يهودي" لكل الاحزاب والمؤسسات، وأهداف هذه المؤسسات والأحزاب أهداف أسطورية، فهي تتجاهل الوجود الفلسطيني والتاريخ العربي، ولذا كان من المستحيل تحويلها إلى واقع
إلّا عن طريق أقصى درجات العنف.
وُلِدَ بن غوريون من أسطورة وحدة الشعب اليهودي وتفوقه، وقضى حياته يحاول ترجمة الأسطورة إلى
واقع عن طريق العنف الايديولوجي والعسكري.2
 فأي عُدة أُعِدّت له ولحركته الصهيونية التي جاءت أنفارًا وهجّرت أصحاب الأرض زرافات زرافات؟
"وقد أثار د.عادل الأسطة في كتابه " أدب العائدين" تساؤلا كبيرا من خلال دراسته لرواية سامح خضر"
يعدو بساق واحدة" حين قارن ما بين قاسم بطل الرواية، وبين(ديفيد لوتفيك) الشخصية المحورية في رواية (هرتسل) الذي لم ترق له فلسطين حين زارها، فقد أحبط أيضًا، و لكنه أدرك أنها يمكن أن تغدو مختلفة إذا ما فعل شيئًا لأجلها.
أما قاسم فتخيلها جنة وحين رآها بائسة قرر مُغادرتها، لولا أن القدر ساقه إلى رام الله وعمل على التكيف مع الواقع"3
كان ياسين مُصابا بمرض نادر وخطير كما شخصّه أطباء المخيم،
لكنه مع خطورته الشديدة لم تنته رواية أحمد أبو سليم بموت بطله ياسين، لأنّه جعل لياسين شخصيّة
مركبة وجامعة،حتى أصبح لا يُشكل صورة لفرد معين بذاته، إنّما اختصر سمات مجموع البشر الذين يعيشون ذات الواقع.
هل جاء هذا المرض بالذات ، رؤية الأشياء والكلمات بالمقلوب، عفويا أم تعمد ان يجعل من ياسين شخصية تثير تندر وفكاهة أترابه في المدرسة أو المخيم؟
قطعًا لا، إنما هو سهم يرميه الكاتب
بقوة لشعوب وزعامات رضيت أن تواصل العيش في هذا الوضع المقلوب! أن يحتّل الآخر أرضه، هذا المطرود من كلّ بقاع الأرض، القادم بكلّ الألوان والعقائد، والدين الذي فُصِّل على قدر الحلم الصهيوني،
ويذوق الفلسطيني ذلّ اللجوء وعتمة المخيمات. وليست اللازمة الثانية التي تكررت بكثرة" قبل أن تصل الكهرباء إلى المخيم" إلّا إشارة
للضعف وقلة الحيلة وزيادة في كآبة الوضع المقلوب... إنّه ليل المخيم الطويل، الطويل.
حتى صارت متلازمة دير ياسين مرض منتشر بين أهل المخيم لا دواء له. بل ولم تَفُّك عقدة هذه المتلازمة وتُخفف من وطأتها، لا متلازمة كفرقاسم، ولا أيلول الأسود
ولا تل الزعتر، ولا صبرا وشتيلا، ولا جنين ولا غزة... ولا غزة... ولا غزة
سلسلة خانقة من المتلازمات طوقت عنق الفلسطيني ولا تزال،
والزعامات الكئيبة تصوّر الهزيمة نصر. والهزيمة تُعشش في النفوس
يغمسها الفلسطيني مع لقمته الجافة
ويشربها ماءً أصفرَ، ويرتديها ثوبًا
خشنًا، ويفترشها شوكًا، ويتوسدها وسادة لا تصلح للحلم، وغطاء مهترئا
مزقته أيدي ذوي القربى، لا يقي من حرٍّ ولا برد...
ياسين الخال الشاهد الناجي الوحيد من المذبحة قطعوا لسانه، بعد أن ذاق أسوء فنون التعذيب، شاهدٌ على محرقة جثث أهل بلدته أقاربه، على قتل الشيخ في بيت الله، ممن لا يعرفون الله ولا بيوته، ويقتلون ويحرقون ويسرقون ويغنصبون باسم الله وأمره!- ياسين الخال شاهد على جوقة الأطفال في السماء
التي ودعت الحياة، شهد ياسين طعن طفله الرضيع، و اغتصاب زوجته ياسمين أجمل نساء فلسطين، اربعين مرة من قبل جنود الإحتلال. ياسمين التي قدّم لها مهرا روح وليام جاك الضابط الانجليزي الذي قتل والدها بدم بارد، وبعد أن حقق لها ياسين مهرها تزوجا وما أن مرّ على زواجهما سنة حتى أطلقت أول رصاصة غدر في دير ياسين، ليتبعها شرّ غاشم بدأ ولما ينته بعد.
قطعوا لسان ياسين، وسجنوا الصحفية الفرنسية في مشفى
للأمراض العقلية- الذي بُني على أرض دير ياسين، فمن غير المجنون يمكنه أن يحيا في بلدة أرواحٍ تحوم فوق أجسادها المحروقة ؟- حيث اتهموها بالجنون، ليضمنوا كتمان أخبار المجزرة وتغييب صورها....
لكن هل لمثل هذه الجرائم ان تُنسى
وكيف تُنسى وقد جعلت منها أم ياسين( الراوي) حكايتها الليلية ما قبل النوم لابنها ياسين، وإن نسيت أي تفصيل فدقات رجلها الخشبية
التي حلّت محل رجلها المبتورة التي
مزقّها رصاص الغدر، كفيلة بأن تعيد
 لياسين كامل المشهد بأشباحه ورعبه.
ولأن الزمن كما جاء على لسان ياسين الراوي: الزمن فكرة، شعور ، مفهوم مُبهم، والحاضر كذبة، ستقول الآن إفعل كذا، وما أن تنتهي من كلامك حتى يُصبح الفعل وكلامك جزءا من الماضي، وكأن الزمن سيل في الماء، فهو سريع الجريان يأخذ الحاضر معه كلّ لحظة بلا توقف" ص ٨٨
لكن هذا الزمن في ليل المخيم
الطويل لا يأخذ شكل الأزمنة الثلاث، هو ماضٍ ممتد إلى ما شاء الله، ما دام المشهد مقلوبًا، والكذبة ذاتها الكذبة، قالوا وصدقوا الكذبة،
كلها أيام ونعود...
وازداد صدأ المفتاح المعلّق على حائط المخيم... وقد تحطم الباب...

ثارت ثائرة أهل المخيم حين سُميّ الأب في بطاقة التموين " رب العائلة" قدّموا احتجاجًا لم يُسمع لهم!!
وفي الأرض المغتصبة هناك صهيوني يقول ساخرًا: إنّ خط
بارليف لا بدّ أن يمتد ليحيط بكلّ السفارات وبكل مواطن اسرائيلي في الخارج"
إنها المفارقات القاهرة...
لم يحفر أبو سليم في التاريخ ليكتشف الحقائق بل ليفضح كيف تشكلت الحقائق، فكما قال فوكو( فيلسوف ومؤرخ فرنسي): الطب، السجون، الجنس، الجنون... ليست موضوعات محايدة، بل أدوات يُعاد عبرها إنتاج التحكم الإجتماعي.. وهذه ليست دعوة للشك فقط، بل دعوة لتحطيم السجون الفكرية
التي نظنها حقيقية..."
فما كانت فتحية سوى شخصية مُتحديّة بالأساس، تختزن نقمة تسعى للإنفجار، ولم يكن دواؤها سوى صفعة لأناس تجرعوا أسوء دواء
واستساغوه نزولا لإشباع رغباتهم الجنسية، في وقت تسكنهم الهزيمة
وتشاركهم مضاجعهم.
لم يكن التعري في حضرة فتحية إلّا رسالة مفادها أن بلوغ الحاجة يتوجب التعري...
هذا التعري المجازي الذي أتى به
الراوي، لرمي كلّ الأوهام والمخاوف والأفكار المحنطة وقيود نحن من وضعها، ومجابهة الواقع بلا أقنعة ولا زيف، فلا نصر دون هزم الهزيمة
المعشّشة في العقول والنفوس.
ومن هذا المنطلق بدأ ياسين يُعدّ العدة، فهو وإن أحبّ نهرو صديقه الاشتراكي ذو الأيديولوجية الشيوعية، وسُجن بسببه وذاق مرار الوحدة والسجن، إلّا أنه رفض الإنصياع له وأبقى مسافة لقلق السؤال والإنتقاد وبالتالي الرفض،
فليس منه من لا يدافع عن قضيته
بالفعل وليس بالشجب والندب.
فلم يكتف أحمد أبو سليم بالعودة إلى الماضي، بل استمد من وقائع الحاضر رؤية للمستقبل، تفعل فعلها في النفوس وتُحرض على تجَنُب مصيرا أسود قد يدمر حياتهم إن لم يأخذوا زمام المبادرة لتغيير واقعهم
والأخذ بهم نحو الأجمل والأفضل.
فمثله مسكونًا بفلسطين وآلامها وعارفًا لأبجدية الوطن ومعنى الإلتزام به، اهتم بالتركيز على الحدث حتى لو كان استذكاريًا، رغبة منه في تثبيت تلك الصورة
للمحافظة عليها، لأنها تمثل الجذر والأصل للحكاية.
ولأن صاحب القضية وحده يتخطى رواسب القهر، جعل ياسين وشخوص روايته يقرعوا الخزان بل ويخرجوا منه، فقد ملك قدرة قوية على إحالة الواقع بقسوته وثقله إلى رؤى فنيّة ذات شفافية عالية وحضور إنساني غامر
ففي لحظة من لحظات شعور ياسين بالضعف والهزيمة وإدراكه لعدم التطابق بين وعيه والعالم الخارجي دفعه إلى التخلي عن كلّ
ما يربطه بهذا الواقع الكسير... تخلص من ملابسه والصور والأثاث المتواضع... لم يعد يستطيع إلا أن يكون هو ذاته...
حذا حذوه كلّ أهالي المخيم تعروا من مخاوفهم، رموا بقيودهم بعيدا ومشوا إلى زمن الصباح الذي هو بداية جديدة من زمن غير حديث، الأحداث فيه لا تعرف التوقف، والقول أيضا أن هذا الصباح غير عادي، هو صباح يبحث عن نفسه، مواجهة سافرة مع كلّ الأشياء، المؤامرة، الصمت، الخوف، الخضوع،
الهزيمة.
        *********
  • كلمة من عمق الحزن
كان لقائي بالمرحوم أحمد أبو سليم
في معرض الكتاب رام الله 2022
ظننته المسؤول عن بيع الكتب في أحدى زوايا المعرض، بتواضع وأدب أخذ ينصحني بأسماء لبعض الكتب والروايات، سألته إن كان قد قرأها فأجاب بالإيجاب، كانت إجابة الممتلئ بالحياة ودائم الجوع للقراءة والمعرفة، ابتعت كلّ ما نصحني به من روايات، شكرت
وهممّت بالمغادرة استوقفني سأل عن إسمي، وإذا به يكتب إهداء
يوقعه باسم أحمد أبو سليم في أولى صفحات رواية "يس"
كتب: حتى لا تُصبح دير ياسين تجديدًا !
في تلك اللحظة أقبل الصديق أحمد زكارنة مرحبًا وعرّفنا على بعض من جديد.
كانت بعض دقائق من عمر هذا الزمن الغادر، قرأت في ملامح هذا الإنسان شيئا أعمق من الحزن، وأكثر غموضًا من ليل الفلسطينيّ ،
وتواضعًا يطلّ مبتسمًا بإشراقة أمل محتمل لغدٍّ قريب...
حين تلقيت نبأ رحيله الموجع، تيقنت أن متلازمة دير ياسين أطبقت بكلتا يديّها على صدره في هذا الوقت العصيب، ولم يعُد جرحه يتحمل أن يظل مفتوحًا،فلا مظلّة تقيهِ هطول هذا الحزن الثقيل..
 فهل رحلت إلى الخلاص أيّها الإنسان النبيل؟
تغمدك الله بوافر رحمته وأسكنك فسيح جناته.

خالدية أبو جبل
الجليل الفلسطيني
14/7/2025
مصادر ومرجعيات
1) العنوان، هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، شُعيب حليفي
2) بن غريون، عبد الوهاب المسيري
 في الادب والفكر، دراسات في الشعر والنثر
3) عادل الاسطة، أدب العائدين تساؤلات وقراءات