كنوز نت - بقلم: رانية مرجية



عدالة السماء بعد الانتقال والسماء السابعة في الفكر المسيحي
بقلم: رانية مرجية
عندما نأخذ على عاتقنا التساؤل حول عدالة السماء بعد الانتقال، يتبادر إلى أذهاننا مشهد آخر يتخطى حدود الزمان والمكان، حيث تتشابك الأفكار حول الموت، الحياة الأبدية، وعلاقة الإنسان بالخالق. في المسيحية، تتحدد العلاقة بين الإنسان وإلهه وفقًا لمعايير رقيقة ومعقدة في آن واحد، مستندة إلى فكرة العدالة التي تتجاوز الفهم المحدود للعقل البشري. نعيش حياة في بحث مستمر عن المعنى، ونتساءل عن مصيرنا بعد الرحيل، فهل حقًا توجد عدالة سماوية تجسدها السماء السابعة؟ هل يمكن أن تكون هذه العدالة مجرد رد فعل لما قمنا به في حياتنا على الأرض؟ أم أن السماء هي مكان للخلاص الأبدي والنعيم الأزلي بعيدًا عن أي مفاهيم أرضية؟
عدالة السماء: بين الرحمة والعقاب
في الفكر المسيحي، تمثل العدالة الإلهية توازنًا بين الرحمة والعقاب، فهي ليست عدالة تقتصر على الانتصار للقوانين أو الإنصاف الميكانيكي، بل هي عدالة مليئة بالرحمة، لا تعرف التجزئة أو التفاضل بين خلق الله. ويقول الكتاب المقدس: "الرب عادل في كل طرقه ورحيم في كل أعماله" (مزمور 145: 17). هذه العدالة ليست بالعدالة المادية التي نعرفها على الأرض؛ بل هي عمق روحي يشمل كل الأبعاد الإنسانية: الفهم، والإحساس، والنية. العدالة التي تتبع الإيمان الحقيقي، وتصل بنا إلى النعيم في السماء، هي تلك التي تحكم في قلب الإنسان قبل أن يحكم في أعماله.
إن هذا المفهوم من العدالة قد يثير تساؤلات متعددة: هل هي قاسية عندما تصادف الخطايا البشرية؟ أم أنها تمنح فرصة للتوبة؟ يرى المسيحيون أن السماء ليست فقط مكانًا للعقاب للخطاة، بل أيضًا مكانًا للإصلاح الروحي، حيث تنعم الروح بتطهيرها وعودتها إلى الله. فعلى الرغم من أن الله هو القاضي العادل، إلا أن عدالته لا تعني القسوة بل الانفتاح على الغفران والتغيير.
السماء السابعة: طيف الأبدية في المسيحية
أما بالنسبة للسماء السابعة في الديانة المسيحية، فإنها تمثل أعلى مراتب النعيم الإلهي. وفي النصوص الكتابية، تُصوّر السماء السابعة كما لو أنها المكان الذي يلتقي فيه الإنسان مع الله، في وحدة روحية لا يمكن تصورها. السماء السابعة ليست مجرد فضاء في الكون، بل هي حالة من الوجود الروحي التي تعكس السمو الكامل والنقاء المطلق. يُقال في الكتاب المقدس أن السماء السابعة هي الموضع الذي يسكن فيه "العرش الإلهي"، حيث تنبثق من هناك النعم السماوية التي تفيض على المخلصين.
وفي رؤية أخرى، تصوّر السماء السابعة على أنها المنطقة التي تحوي الأرواح الطاهرة والملائكة الذين يخدمون الله، ويشهدون على مسيرة الإنسان نحو الخلاص. هي السماء التي تحيط بها أسرار لا تدركها الحواس البشرية، حيث تتناغم فيها الألحان السماوية وترتفع النفوس في عبادة أبدية لله. السماء السابعة ليست مجرد تصوّر مجازي، بل هي معراج روحي يقود الإنسان إلى أقرب نقطة من الله، حيث لا مكان للزمن أو للحدود المكانية.
لكن، السؤال الذي يظل قائمًا في الفكر المسيحي يتعلق بكيفية الانتقال إلى هذه السماء السابعة. هل يكفي الإيمان المسيحي وحده للوصول إليها؟ أم أن هناك عناصر أخرى تتعلق بممارسة الحياة اليومية، الأخلاق، والنية الطاهرة؟ الواقع أن السماء السابعة ليست هدفًا يسعى إليه الإنسان من خلال مجرد العبادات الشكلية، بل هي مآل أرواح اختارت أن تكون في خدمة الله وتطبيق مبادئ الحب، الرحمة، والسلام على الأرض.
التأمل في العدالة السماوية: هل هي فرض أم اختيار؟
عندما نفكر في عدالة السماء، لا يمكننا أن نتجاهل الإشكالية الأساسية التي تطرحها: هل العدالة السماوية هي فرض مطلق على الإنسان؟ أم أنها اختيار ينبع من التفاعل الروحي العميق مع الإله؟ في الديانة المسيحية، يقال أن الخلاص هو هبة من الله، لكن الإنسان هو من يحدد مصيره بناءً على اختياراته في الحياة. إنه يصنع قراراته، وإن كانت مشيئة الله تسير في هذا الاتجاه، فالتغيير الروحي الذي يسعى إليه يكون ناتجًا عن تفاعل الإنسان مع الله وليس فرضًا قسريًا.

العدالة الإلهية في المسيحية تتجاوز حدود مفهوم المكافأة والعقاب. هي تعبير عن الحب الإلهي غير المشروط الذي يفتح المجال للإنسان للتوبة، التغيير، والتحول الداخلي. السماء، وفقًا لهذا الفهم، لا تكون هي المكان الذي نذهب إليه بعد الموت، بل هي حالة نفسية وروحية يعيشها الإنسان أثناء حياته على الأرض، في سعيه للاتحاد بالله.
الخاتمة: عدالة السماء وآفاق الروح
في النهاية، تظل العدالة الإلهية، التي تجسدها السماء السابعة، ليست مسألة مفهومية محدودة، بل هي رحمة إلهية أعمق من أن تُحصر في حدود عقلية الإنسان. السماء السابعة ليست مجرد مكان، بل هي حالة من النقاء الروحي الذي يمكن أن يختبره الإنسان في حال بلغ مستوى من التوبة والمصالحة مع نفسه ومع الخالق. العدالة السماوية لا تقوم على العذاب أو المكافأة، بل على فرص متجددة للروح كي تنمو وتتطور نحو حالة أسمى من السعادة الأبدية.
إن الفكر المسيحي حول السماء السابعة وعدالة السماء يدعونا إلى رحلة تأملية مستمرة، حيث يصبح الإنسان مسؤولًا عن اختياراته الروحية والعاطفية والأخلاقية. في هذه الرحلة، نكتشف أن العدالة السماوية ليست عدالة مبنية على القوانين المتعالية، بل هي عدالة تقيم في قلب الإنسان، وتُظهر له الطريق إلى النور الأبدي.