
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
المدرسة كمؤسسة أمنية: بين سلطة التعليم وتعليم السلطة
بقلم: رانية مرجية
لم يعد بإمكاننا الحديث عن المدرسة العربية بوصفها مجرد حاضنة تربوية أو بيئة معرفية محايدة. فقد تحوّلت، بمرور الزمن، إلى مؤسسة مزدوجة الوظيفة: تُدرّس وتراقب، تُقيّم وتُصنّف، تُعلّم وتُخضع. ومن المؤسف أن المدرسة، التي كان يفترض أن تكون الحاضنة الأولى للتفكير النقدي والتعبير الحر، أصبحت في كثير من السياقات العربية امتدادًا ناعمًا لسلطة الدولة، ومركزًا لإنتاج الطاعة لا الوعي.
ليست المشكلة في المناهج فقط، رغم ما تحمله من فراغات فكرية وتوجيهات أيديولوجية، بل في البنية العميقة التي تحكم علاقة الطالب بالمعلّم، والمعلّم بالإدارة، والإدارة بالسلطة. المدرسة لا تُخرّج اليوم مواطنين أحرارًا بل أفرادًا مدجّنين، تدرّبوا على الخوف من السؤال، وعلى خفض الصوت في حضرة السلطة. هي أشبه بمختبر لتطويع الأذهان منذ الصغر، حيث يُكافأ من يقلّد، ويُعاقب من يُفكّر.
الأخطر من ذلك أن المؤسسة التعليمية لا تكتفي بمراقبة الطالب داخل الصف، بل تلاحقه خارج أسوار المدرسة. صارت حساباته الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفايسبوك، جزءًا من الملف التربوي غير المعلن. منشور بسيط عن واقع التعليم، أو تعليق يعبّر عن موقف سياسي، قد يُكلّف الطالب أو المعلّم استدعاءً أو تحقيقًا أو إنذارًا. وكأن حرية التعبير، المعلّقة كشعارات على الجدران، لا يُسمح بممارستها في الواقع.
المدير، في كثير من الحالات، لم يعد شخصية تربوية حقيقية، بل أشبه بوظيفة أمنية مقنّعة. يقيس الانضباط لا الإبداع، ويُقيّم السلوك لا الفكرة. ما يُزعج ليس ضعف التحصيل، بل قوّة الرأي. وما يُخيف ليس الجهل، بل الوعي. والويل لمعلم يتجرأ على تشجيع طلابه على التفكير المستقل، أو تلميذ يكتب في دفتره رأيًا يزعج المؤسسة. فالتعبير الحر صار تهمة، والصدق جريمة، والمبادرة خروجًا عن النص.
وفي هذا المناخ، تتحوّل حصص التعبير إلى طقوس شكلية، يُطلَب من الطالب خلالها أن “يُحب الوطن”، دون أن يُفكّر في معنى هذا الحب. أن يشكر الحكومة، دون أن يسأل عما قدّمته له. أن يردد نشيدًا لا يفهمه، ولا يُسمح له أن يقول ذلك. كل تعبير لا يتماشى مع الخط العام يُمزَّق، وكل فكرة خارجة عن القاموس الرسمي تُحذف، وإن بقيت، فبشروط المؤسسة لا بشروط الحياة.
الطامّة الكبرى أن أولياء الأمور أنفسهم كثيرًا ما ينحازون إلى هذا القمع الناعم. فبدل أن يدافعوا عن أبنائهم، يسارعون إلى تأنيبهم وتبرير “خطئهم” أمام المدرسة. يتخلّى البيت عن دوره النقدي، ويتحوّل إلى فرع صغير للرقابة، لا لاحتضان التساؤل. وهكذا، يُحاصر الطالب من الجانبين: مدرسة تفرض الصمت، وبيت يُبرّره.
نحن لا نعيش أزمة مناهج فحسب، بل أزمة فلسفة تربوية بكاملها. نحن في حاجة إلى زلزال فكري يعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والسلطة، بين المدرسة والمجتمع، بين التعليم والحرية. فلا نهضة ممكنة في ظل مدارس تخاف من الرأي أكثر مما تخاف من الجهل، ولا مجتمع يمكن أن يُبنى على الخوف من السؤال.
إن إصلاح التعليم لا يبدأ من تغيير الكتب فقط، بل من إعادة الاعتبار للمعلّم المفكّر، والطالب المتسائل، والمدرسة التي تعترف أن التفكير ليس تهديدًا، بل ضرورة وطنية. لا نريد مدارس تخرّج موظفين في ماكينة صمّاء، بل مواطنين أحرارًا، يعرفون كيف يسائلون، لا كيف يُكرّرون.
في النهاية، التربية التي تخشى من الصوت الحر، هي تربية تُعدّ الأجيال للخضوع، لا للنهضة. ومدرسة تُدرّس التعبير… لكنها تمنعه، ليست مؤسسة تعليمية، بل مركز تدريب على الصمت المُنظَّم
12/06/2025 09:03 pm 82