.png)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
سوزان دبيني… بين دفء القصيدة وصوت الوجدان
بقلم: رانية مرجية
في زمن يتكدّس فيه الضجيج وتذوب فيه الهُويات كحروف في محبرة جافة، تخرج إلينا سوزان دبيني من عتبات الجليل، شاعرةً تشبه الضوء حين يتسلل إلى فسحة القلب، وإعلاميةً تُشبه صوت أمٍ تنادي أبناءها في العتمة، فتردّ إليهم الحنين واليقين. من الناصرة، المدينة التي تحفظ أسرار الأرض والسماء، أتت سوزان، تحمل على كتفيها إرثًا مزدوجًا: من الجنوب اللبناني وجعًا ناعمًا، ومن فلسطين إصرارًا لا يكلّ ولا يملّ.
هوية مشرقة في زمن الالتباس
سوزان دبيني ليست فقط اسمًا شعريًا عابرًا ولا مجرد صوت إذاعي مميّز؛ إنها ذاكرة، وثقافة، وجسر محبة بين الضفتين: ضفة الروح وضفة الواقع. منذ انطلاقتها الإعلامية ، وهي تثبت أن الصوت ليس مجرد ذبذبة في الأثير، بل هو موقف، رسالة، انتماء.
حين بدأت العمل في إذاعة صوت إسرائيل – القسم العربي، لم تكن فتاة تبحث عن فرصة، بل امرأة تحمل رؤيا، ووعيًا اجتماعيًا وثقافيًا، استطاعت من خلاله أن تدخل بيوت المستمعين لا كمذيعة، بل كابنة أو أخت أو صديقة. كانت وما زالت، بارعة في التقاط نبض الناس، في الإضاءة على القضايا المهملة، وفي إعلاء شأن الحوار المتزن والموقف العادل.
شاعرة الحبّ الإنساني
لو أراد أحدهم تلخيص التجربة الشعرية لسوزان دبيني في كلمة، فلن تكون تلك الكلمة سوى: “حبّ”.
لكن أي حبّ؟ إنه الحب الذي ينفذ من القلب إلى الروح دون أن يستأذن، حبّ لا يشبه الكليشيهات العاطفية المتداولة، بل هو التزام وجداني، هوية أخرى للذات.
قصائدها تشبه بوح الماء حين يعبر حجارة النهر دون أن يكسرها. من “عندما تضمني إليك” إلى “أيقونة الحب” ثم “دفاتر القمر” و”قارئة الفنجان”، تتسلل نصوص دبيني إلى وجدان قارئها كأنها تعتذر عن قسوة العالم.
في ديوانها “أيقونة الحب” تغزل سوزان شعرها كمن تنقش بخيط النور أيقونة حقيقية في قلب اللغة. كتبت:
“لكي أحبّكَ بصدقٍ
عليَّ أن أراكَ عاريًا من ماضيكَ
من حاضرِكَ.. من مستقبلِكَ
عليَّ أن ألمسَ الإنسانَ داخلَكَ…”
إنها لا تُحب كما يُحبّ العامة، بل تحب كما يصلي الناسك في محرابه: بنقاء، بصدق، بمطلقيه لا تخضع للمقايضة.
بين العبرية والعربية… جسر القصيدة
في عملٍ استثنائي، تعاونت سوزان مع الشاعرة اليهودية شلوميت سبير نفو، فصدر ديوان “قارئة الفنجان” بلغتين: العبرية والعربية. هذا العمل ليس مجرد ترجمة، بل هو فعل جسري، ثقافي، روحي، سياسي، في زمنٍ تتراجع فيه محاولات الفهم لصالح الصراع. في هذا التعاون، تؤكد دبيني أن القصيدة لا تعترف بالحواجز، وأن الشعر ما زال قادرًا على أن يكون فعل مقاومة راقٍ.
الحضور الإعلامي… صوت امرأة من نار وحنين
في برامجها الإذاعية، لا تكتفي سوزان دبيني بتقديم المادة، بل تنسج حولها نسيجًا من التفاعل الصادق. تتناول قضايا الناس اليومية، تُعطي للمرأة صوتًا، للمهمّش حضورًا، وللمُحبّين أملًا. الإعلام في زمن سوزان ليس ترفًا ولا منصة للشهرة، بل وسيلة لتكريس العدالة المجتمعية وجبر خواطر المنسيين.
من يتابعها في المهرجانات والندوات، كما في احتفالية “آذار والمرأة” في طمرة، يدرك جيدًا أنها لا تكتفي بقراءة القصيدة، بل تعيشها، تنطقها كما تُنطق الشهادة، بثقة واحتفال داخلي يليق بمن تعي وزن الكلمة وقدرها.
صوتٌ يبقى بعد الغياب
ربما أجمل ما يمكن قوله عن سوزان دبيني، أنها لا تكتب لتُعجب، بل لتُحب. لا تتحدث لتُسمع، بل لتصل. لا تحضر لتُصفق، بل لتزرع أثرًا في ذاكرة الناس.
في زمنٍ طغى فيه الزيف على كل شيء، تبقى سوزان دبيني صوتًا حقيقيًا، شفافًا، يذكّرنا بأن الشعر ما زال يملك القدرة على إعادة صياغة الألم، وأن الإعلام ما زال يملك القدرة على قول الحقيقة بهدوء.
سوزان دبيني، شاعرة من نور، وإعلامية من قمح، وامرأة من مزيج بين الأرض والسماء. وهي، في كلّ قصيدة وصوت وموقف، تكتب باسم كلّ من فقد صوته، وتحكي باسم كلّ من لم يُعطه أحد يومًا فرصة الكلام

30/05/2025 09:23 pm 110