.png)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
رنا بشارة: الجرح الفلسطيني في جسد الفن المعاصر
بقلم: رانية مرجية
مقدمة
في فلسطين، لا يولد الفن من ترف الجمال، بل من وجع الذاكرة. الفن لدينا ليس زخرفة، بل مقاومة. وإذا كان الفن الفلسطيني المعاصر ينوء تحت ثقل التاريخ والهوية والاقتلاع، فإن تجربة الفنانة رنا بشارة تمثل ذروة هذا التوتر الخلّاق بين الجمالي والسياسي، بين الشخصي والجمعي، بين الرمز والواقع. هي لا تُبدع من فراغ، بل من ركام القرى المهدّمة، من صدأ المفاتيح، ومن ضجيج الأسلاك الشائكة. إنها فنانة تصوغ فلسطين لا كموضوع خارجي، بل كجسد يتنفس، ينزف، ويتحدى النسيان.
المادة بوصفها ذاكرة
منذ بداياتها، رفضت رنا بشارة أن تنفصل عن التربة التي وُلدت منها. ولذلك، لم تلجأ إلى الخامات الصناعية المحايدة، بل استخدمت ما في الأرض وما عليها: التراب، الطين، الحجارة، الزيتون، الحديد الصدئ. لم تكن هذه مجرد وسائط تقنية، بل شواهد مادية على ما جرى وما لا يزال يجري.
في عملها “مفتاح العودة”، لم تقدّم رمزًا فولكلوريًا، بل وثيقة مقاومة جماعية. كل مفتاح علّقته هو قصة بيت، كل صدأ فيه هو امتداد لزمن المنفى، وكل سلسلة تعلقه بالحائط هي حبل ذاكرة لا ينقطع. بهذا الفعل البصري، لا تستحضر بشارة الذاكرة، بل تجسّدها ككائن حيّ، يرفض الموت بالصمت.
الأنثى بوصفها جغرافيا وطنية
في معظم أعمال رنا بشارة، يتقاطع الجسد الأنثوي مع الجغرافيا الفلسطينية، لا بوصفه موضوعًا للعرض، بل كجبهة من جبهات الصراع. الجسد في فنها مصلوب، مُجروح، مُحاصر، ولكنه ينبض بحياة ترفض الإخضاع. في تركيبات مثل “جسد الوطن”، تُقدّم بشارة جسد الأنثى كما لو كان خارطة فلسطين: محاصَرًا بالأسلاك الشائكة، مثقوبًا بالرعب، لكنّه لا يزال يتنفس.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن هذا التداخل بين الجسد والوطن ليس شكليًا، بل إيديولوجي وجمالي في آن: هي ترفض الفصل بين ما هو خاص وعام، بين ما هو أنثوي وسياسي، لأنها تعي أن الاحتلال لا يغتصب الأرض فحسب، بل يغتصب الأجساد والذاكرة في آنٍ واحد.
الفن كساحة اشتباك رمزي
رنا بشارة لا تنتج فنًا “عن فلسطين” بمعناها الشكلي، بل تنتج فلسطين ذاتها كفنّ. فلسطين في أعمالها ليست علمًا، بل غبار بيت مهدم، وحجرًا خُلع من مكانه، ومفتاحًا فقد صاحبه، وشجرة زيتون لم تجد جذورها بعد.
في هذا السياق، يمكن القول إن بشارة تنتمي إلى تقليد فني فلسطيني مقاوم، لكنها تذهب أبعد من مجرد التوثيق أو الرمزية. إنها تُنتج معرفة بصرية جديدة، تُعري الخطاب الصهيوني، وتُدين العالم الذي تطبع مع المحتلّ بينما يتجاهل الضحية.
خاتمة: الفن كأثر لا يُمحى
في زمن تتكاثر فيه المحاولات لطمس الرواية الفلسطينية، تأتي تجربة رنا بشارة كحالة تحدٍ حقيقية: لا سلام مع النسيان، ولا فن بدون ذاكرة، ولا وطن بدون مقاومة. إنّ ما تفعله هذه الفنانة لا يقتصر على “التعبير” عن الهوية، بل على نحتها في وجه العدم، وتثبيتها في زمن الخذلان الجماعي.
وحين ننظر إلى مفاتيحها المعلقة، أو ترابها المسكوب، أو أجسادها المشدودة على جدران المعارض، فإننا لا نرى فقط فنًا، بل أدلة جرمية على جريمة لا تزال مستمرة. وكل معرض لها هو جلسة محكمة، كل عمل فني هو شهادة حيّة، وكل زائر هو شاهد عيان على ما لم يُكتب في كتب التاريخ بعد.

25/05/2025 05:05 pm 69