كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


الدكتور مازن مرجي… حين يلتقي الفكر بالحنين، ويحتضن العلم أهله وأحبابه
بقلم: رانية مرجية
لا تُقاس القامات بعلو المناصب، ولا تُعرَف الشخصيات الحقيقية من خلال سيرتها الذاتية فحسب، بل من خلال الأثر الذي تتركه في القلوب والعقول، في الذاكرة الجماعية، وفي لحظات اللقاء البسيطة التي تتحول إلى محطات مضيئة لا تُنسى.
في صباحٍ مشرقٍ من صباحات الأردن التي تحمل في طيّاتها عبق الأرض والناس، حملنا أنفسنا—أنا، أختي إليكي، وابنة عمّي الفنانة التشكيلية المتألقة هيلن مرجي—وزرنا بيت الدكتور مازن مرجي العامر، ذاك البيت الذي يُشبه صاحبه: متواضع في مظهره، كبير في روحه، رحبٌ كصدر الوطن.
استقبلنا الدكتور مازن مرجي بحفاوة لا تُشبِه إلا الكبار. لم يكن اللقاء مجرد زيارة عابرة، بل كان مساحة إنسانية خالصة، امتلأت بالحوار الصادق، والضحكة الهادئة، والأسئلة التي تدلّ على عمق الرجل واتساع قلبه.
سأل عن الأهل، كل الأهل. عن يافا… عن الناصرة… عن الذين غابوا والذين بقوا، عن الذكريات التي لا تموت، عن الجذور التي وإن نُفيت جسدًا، تبقى راسخة في الروح.
سأل بمحبة حقيقية، لا بواجب مجاملة. سأل كمن لم ينسَ، وكمن لا يستطيع أن ينسى. سأل لأن الذاكرة عنده ليست هامشًا، بل أصلٌ وأمانة.
وفي جلسة امتدّت كأنها فسحة راحة في زحام الزمن، بدأ الدكتور مرجي يفتح دفاتر المعرفة، لا بتعالٍ ولا باستعراض، بل بتواضع العلماء الكبار.
تحدث عن الأردن لا كمن يتحدث من مقعد أكاديمي، بل كمن يحب هذه البلاد حبًا صادقًا، ويشعر أن النهوض بها واجبٌ شخصي. تحدّث عن التحديات الاقتصادية، عن التفاوت الطبقي، عن السياسات التنموية، لكنه لم يكن محايدًا. لم يكن رقميًا في تحليله. كان إنسانيًا بكل معنى الكلمة. كان يقول، وكأنّه يصلّي:
“لا قيمة لأي اقتصاد إن لم يُعِد الكرامة للناس. لا قيمة لأي نموّ إن لم يشمل الجميع.”
عرفنا فيه الاقتصادي القدير، لكننا لمسنا فيه أيضًا الإنسان النبيل، ابن البلدة، ابن العائلة، ابن القيم التي لا تنكسر، حتى حين ينكسر العالم.
هو من أولئك الذين يشتبكون مع الواقع، لا بالشكوى، بل بالفعل.
رجلٌ من زمنٍ لا يُشبه زمن السرعة والمظاهر. زمنٌ فيه ما زالت الجلسات تحمل المعنى، والأسئلة تحمل الهمّ، والحديث يحمل انتماءً حقيقيًا.
وكم كان جميلًا حين تطرّق إلى الفنّ، إلى التشكيل، إلى الإبداع، بلهفة من يرى في الجمال ضرورة لا ترفًا. أنصت باهتمام إلى هيلن مرجي، وهي تحكي عن أعمالها، عن الرموز التي توظفها في لوحاتها، عن وجع فلسطين الذي لا يغيب عن أي ضربة فرشاة.
ثم التفت إليّ، وسألني: “هل ما زالت يافا تسكن فيكم؟”
قلت: “يا دكتور، نحن لا نسكنها، بل نعيش منها، ومن أجلها.”
ابتسم تلك الابتسامة المزيج بين الحنين والحكمة، وقال: “إذن أنتم بخير، ما دمتم لم تنسوا.”
خرجنا من بيته، نحمل ما هو أثمن من الزيارة:
حوارٌ يبقى في القلب.
كلماتٌ تسكن الذاكرة.
وحضورُ رجلٍ يُذكّرنا بأن الخير لا يزال بيننا، وأن الأصالة ليست كلمة، بل ممارسة يومية، وقيمٌ تُغرس في التربية، وتُترجم في العمل.
الدكتور مازن مرجي ليس فقط رجل اقتصاد، بل هو رجل دولة، بمفهومها العميق والنبيل.
هو نموذجٌ لإنسانٍ يجمع بين فكرٍ عالٍ، وقلبٍ قريب من الناس.

من أولئك القلائل الذين تستطيع أن تقول عنهم بثقة:
“هذا إنسان، قبل أن يكون خبيرًا، أو أكاديميًا، أو وجهًا عامًا.”
هو ذاكرة حاضرة، وشاهد على الزمن، ومؤمن بأن التغيير يبدأ من الداخل… من البيت، من الكلمة، من اللقاء، من سؤال بسيط: “كيف هم أهلكم في يافا؟”
في زمنٍ باتت فيه العلاقات سطحية، والزيارات نادرة، والحوارات سريعة… كانت زيارتنا له أشبه بوقفة مع المعنى.
لحظة نادرة من الصدق…
نعم، في حضرة الدكتور مازن مرجي، شعرنا أن العلم ما زال نقيًا، وأن الكلمة الصادقة ما زالت تجد صدى، وأن البيوت العامرة بالحب لا تندثر.
وسنظل نردد، كلما ذُكر اسمه:
هناك من يُشرّفنا أن نكتب عنهم،
لأنهم ببساطة… يستحقون.