
كنوز نت - الكاتب والفنان: سليم السعدي
حين يُسرق الفنان من ذاكرته: النكبة بين الغياب المقصود والاحتواء الناعم
- الكاتب والفنان: سليم السعدي
في كل عام، تحلّ ذكرى النكبة كجرح مفتوح في الجسد الفلسطيني، لا يندمل، ولا يُراد له أن يُشفى، بل يُراد له أن يُنسى. وبينما من المفترض أن يتحوّل هذا التاريخ – 17 أيار – إلى محطة استحضار جماعي، ورمز لإحياء الوعي الوطني، نشهد ظاهرة مقلقة تتكرّر وتتوسّع: اختطاف هذه الذاكرة من قبل مؤسسات وأفراد يستخدمونها لأغراض لا تمتّ بصلة لهوية الشعب ولا لألمه
في مدينة عكا، المدينة التي قاومت أساطيل الاستعمار وتكالبات الطمس، اجتمع فنانون في يوم النكبة... لكن ليس من أجل النكبة. بل تحت شعارات فضفاضة، وفعاليات مُموّهة، لا تحاكي وجع التهجير ولا تحفر في ذاكرة المكان، بل تُعيد إنتاج الفن كمادة استهلاكية تُعرض وتُنسى، ضمن أجندات ممولة أو موجهة
الظاهرة ليست جديدة، ولكنها تزداد وقاحة كل عام. أن يتحوّل الفنان – حامل الشعلة ومؤرّخ الوجدان – إلى أداة في يد مؤسسات تغض الطرف عن الجرح الفلسطيني، بل أحيانًا تُساهم في تلميعه أو تهميشه، هو تطبيع ناعم مع النسيان وهو أخطر من التجاهل العلني، لأنه يتم بلباس "نشاط ثقافي"، لكنه يفرغ كل شيء من معناه
لا يمكن للفن أن يقفز فوق الجراح، ولا للفنان أن يصمت في حضرة الاغتراب الجماعي. حين يغيب صوت النكبة من ريَش الفنانين وأعمالهم في ذكرى تهجير شعب بأكمله، فإننا لا نكون أمام صدفة أو سهو، بل أمام عملية تفريغ رمزي منظم، تُمارس على يد من يُفترض بهم أن يكونوا حراس الذاكرة لا جلاديها
الأخطر أن بعض هذه الجهات لا تتحرك فقط من فراغ فكري، بل من وعي مخطط، هدفه كسر الارتباط بين الفن والهوية، واستبداله بارتباط مشروط بين الفن و"الرعاية"، بين الإبداع والتمويل، بين الرسالة والحسابات الشخصية أو الحزبية أو المؤسسية
وهنا، لا بد من التوقف عند سؤال جوهري
إلى أين ماضون؟
إلى أي وطن يتجه هؤلاء، إذا كانت الذاكرة الوطنية تُختصر في فعالية مغلقة، لا تُذكر فيها النكبة، ولا يُرفرف فيها مفتاح العودة، بل تُرفع فيها صور فرد أو شعار مؤسسة؟
إن الفنان ليس مجرد منتِج جمال، بل فاعل سياسي وأخلاقي، يحمل مسؤولية أن يكون جزءًا من مقاومة التغييب، لا شريكًا فيه. والسكوت عن هذا الاختطاف الرمزي هو خيانة مزدوجة: للناس، وللأرض، وللتاريخ
في يوم النكبة، لم نطلب الكثير. فقط أن يُترك لنا هذا التاريخ من دون استغلال. أن يُسمح للريشة أن ترسم الحنين لا أن تُلوّن شعارات الآخرين. أن يبقى الفن للفلسطينيين، لا لمن يتحدث باسمهم ويُقصي جوهرهم
ختامًا
دعوا النكبة لأهلها
دعوا الفنانين يصرخون كما يشاؤون، لا كما يُطلب منهم
ودعوا عكا تكون كما كانت دائمًا: بوابة الوعي، لا منصة الاستعراض
عن سرقة الفنانين في يوم النكبة
إن اجتماع الفنانين في ذكرى 17 أيار/مايو، دون أن تكون لهم وقفة حقيقية مع النكبة، هو أشبه بمحاولة طمس جماعي للوعي تحت غطاء "نشاط فني"
وهذا ما يُخيف: أن تتحوّل المناسبات الوطنية من مساحات مقاومة ثقافية إلى استعراضات علاقات عامة تُدار لمصلحة أفراد أو جهات
ما الذي يحدث في عكا؟
ما تشير إليه يبدو كأنه عملية تفريغ رمزي لمكان وزمان وحدث
•المكان: عكا، مدينة الحصار والمقاومة، تُستخدم كخلفية فارغة
•الزمان: ذكرى النكبة، تُستغل في غير سياقها
•الفن: بدل أن يكون صرخة ضد الظلم، يُحول إلى زينة تغطي على التجاهل المتعمد للوجع الفلسطيني
السؤال الصادم: "إلى أين ماضون هؤلاء؟"
ربما إلى أحد المسارين:
•إما أنهم يجهلون ما يفعلون، وقد انساقوا خلف مصالح مؤسساتية لا تحمل هم القضية
•أو أنهم يعلمون تمامًا دورهم في حرف البوصلة، ويؤدون ذلك عن سابق وعي وإصرار، وهذه هي الكارثة
ما العمل؟
1.فضح هذه الظواهر: لا بالصراخ، بل بالكلمة الواعية، بالمقال، باللوحة، بالصوت الحر
2.صناعة بدائل: تنظيم فعاليات فنية حقيقية مستقلة، يُعاد فيها للفن دوره المقاوم
3.مقاطعة المناسبات المموهة: التي تُقام باسم الفن ولا تحمل جوهر القضية
4.إحياء النكبة بالفن الصادق: ليرسم الفنان لا ما يُطلب منه، بل ما يُمليه عليه التاريخ والضمير
بيان فني: لا فن فوق الجراح ولا وطن بلا ذاكرة
في ذكرى النكبة، 17 أيار 2025، وفي الوقت الذي كان من المفترض أن يجتمع الفنانون لتكريم الذاكرة، واستحضار الجرح الفلسطيني المفتوح، نُفاجأ بمظاهر مُخزية من التهميش والانحراف، حيث تُستغل هذه المناسبة الوطنية الكبرى لأهداف شخصية ومؤسسية لا تمت بصلة لقضية الشعب ولا لذاكرته الجمعية
لقد بات واضحًا أن هناك جهات ومؤسسات تُمارس دورًا ممنهجًا في تفريغ الأحداث الوطنية من معناها، وتُحوّل المناسبات من محطات للتوعية والوفاء، إلى فضاءات ترويجية ضيقة، يُستدعى فيها الفن والفنانون كزينة خرساء، لا كشهود على الوجع، ولا كمحرضين على الوعي
ما حدث في مدينة عكا – المدينة التي ما زالت جدرانها تحكي عن صمودها – كان مؤلمًا ومُخجلاً، حيث اجتمع الفنانون لا ليرسموا الذاكرة ولا ليحاكوا النكبة، بل ليشاركوا في نشاطات محكومة بانتماء تبعي لأفراد أو مؤسسات توظف الفن في غير سياقه الأخلاقي والوطني.
إننا نُدين هذا التواطؤ الصامت، وهذه "الخيانات الصغيرة" التي تتراكم كل عام، فتُميت ذاكرتنا بالتقسيط، وتُحول العمل الفني من صرخة حرّة إلى مشهدٍ خاملٍ يُرضي الجهات الراعية.
ندعو كل فنان وفنانة، كل صاحب قلم وريشة وصوت، أن يقف مع نفسه أولاً، ثم مع قضيته التي لا تُقايض ولا تُجزأ، وأن يرفض المشاركة في أي فعالية تُستخدم فيها المناسبة كغطاء للتسويق أو للنفوذ أو للتطبيع الخفي.
لا للفن المُفرغ من روحه
لا للمؤسسات التي تبتلع الذاكرة
نعم للفن المقاوم، الحر، الوطني
نعم لعكا التي لا تُباع
نعم للنكبة التي لا تُنسى
الموقع:
[سليم السعدي – فنان وناشط ثقافي]
16/05/2025 05:37 pm 63