مكونات النسيج الاجتماعي
 في القدس في القرنين 16،17م
أ.د. يحيى جبر
توطئة:
        يتناول الباحث في هذه الدراسة ما كان عليه النسيج الاجتماعي في مدينة القدس في القرنين الميلاديين السادس والسابع عشر؛ استنادا إلى ما ورد في سجلات المحكمة الشرعية في القدس، التي بدأ تدوينها في 14 شوال سنة 936 هـ، الموافقق 11/6/1530م، مما جعلها تتصدر سجلات المحاكم الشرعية في بلاد الشام من حيث عددها وشمولها؛ إذ ربا عددها عن 605 سجلات ما زالت تستخدم حتى اليوم.( انظرعطا الله 1/1).
 
ودراسة هذه السجلات على قدر كبير من الأهمية، ذلك بما توثق لحقبة خطيرة من تاريخ فلسطين عموما، وبيت المقدس خصوصا؛ ناهيك عما فيها من الحقلئق التاريخية التي تعكس مكونات النسيج الاجتماعي للمدينة من حيث طوائفها وحرفيوها وطبيعة الحياة فيها.
 
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على الوثائق التي صنفها وحققها محمود عطالله عام1991، ونشرتها جامعة النجاح عامذاك، إضافة إلى بعض المؤلفات التي تناولت مدينة القدس في تلك الحقبة، مثل المفصل في تاريخ القدس لعارف العارف (1961م)، ومظاهر التنظيم الحرفي في بلاد الشام في العهد العثماني، لعبد الكريم رافق (دمشق 1981م)، والأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل لمجير الدين العليمي (النجف 1968م) وغيرها.
 
وتقفنا السجلات المذكورة، بشكل مباشر،على ما كان في القدس من أنماط الحياة والمهن الشعبية التي كان يمارسها المواطنون آنذاك، وقد تنبه إلى قيمة هذه السجلات بهجت صبري الذي قدّم لما نشر منها، حيث ذهب إلى" إمكانية استفادة الباحثين والدارسين والمهتمين من الوقوف على التركيبة الداخلية لمجتمع مدينة القدس، وعلاقة هذا المجتمع مع الطوائف الحرفية....."(صبري ـ وثائق الطوائف ص ن).
 
وفي هذه الوثائق ما يعكس مكانة القدس في تلك الحقبة، إذ لم ترد دون صفة ترفع شأنها وتبيّن منزلتها الشعبية والرسمية، وفي ذلك ما ينفي المزاعم الصهيونية التي تدعي أن القدس لم تكن ذات يوم موضوع اهتمام الفلسطينيين، فهي في تلك الوثائق "القدس الشريف السنية المحمية" (الوثيقتان436،437) وهي "القدس المنيف" ( الوثيقة436) وهي أيضا "القدس المحروسة" (الوثيقة 440) وهي "القدس الشريف والمعبد العالي المنيف" ( الوثيقة 57 )، كما أنها "القدس العلي المنيف" (الوثيقة 10) وهي "القدس الشريف المطهر"(الوثيقة 11)، وهي "المحمية المستورة" (الوثيقة 13).
 
وكانت القدس تعج بالحياة، يشهد بذلك هذا العدد الضخم من الحرفيين والمهنيين الذين كانوا يعمرون أحياءها بالحركة ونداءات الباعة، فذاك حداد يطرق الحديد، وهذا نجار يهوي بقدومه على الخشب، أو يقصه بمنشاره، وذاك دباغ وهذا معاصري....، وتلك أسواقها تضج بالسوقة الذين يفدون إليها من كل أوب، أو يغادرونها بعيدا إلى مصر المحروسة أو إلى صيدا وغيرها من مدن الشام.
 
الطوائف الدينية والمذهبية:
كان سكان القدس في القرنين السادس والسابع عشر ينتمون لأديان مختلفة يمثل المسلمون جلهم، وكان منهم النصارى واليهود، وكان فيها من أهل الملة الإسلامية مذاهب شتى يتقدمهم أهل السنة والجماعة، وكان بينهم دروز وشيعة. وكذلك كان النصارى، من مذاهب مختلفة بين روم وأرمن وأقباط وسريان، كل ذلك استنادا إلى ما ورد في الوقائق التي اعتمدناها، وكان جلها لتنظيم العلاقة بين أصحاب الحرف والديانات المختلفة.

 
وكان من سكانها من لا يتكلم العربية، فقد جاء في الوثيقة 99 سنة 1687م طلب الحياكين تغيير شيخ الطائفة الحاج حسين التركماني لتمرّضه.....ولأن لغته تركية، لا يفهمها أولاد العرب..وفي الوثيقة101 سنة 1690 ورد ذكر( عطا الله الذمي وأرميا الذمي). وفي بعض الوثائقنجد تفصيلا للطوائف المسيحية التي كانت في القدس آنذاك، ورد في(105 مثلا) ذكر "قدسي ولد صالح النصراني المتكلم على حاكة نصارى الروم.... وكرابيت النصراني المتكلم على حاكة نصارى الأرمن، وسلامة المتكلم على جاكة نصارى السريان بالقدس الشريف" ولعل في القدس اليوم من الملل النصرانية ما هو اضعاف ذلك، مما يعني أنهم وفدوا إليها من بعد، أ, أنهم غيروا انتماءهم إلى المذاهب التي طرأت على البلاد من بعد.
 
 وكان من سكانها من هو من بلاد مالي والتكرور، إذ بجد في الوثيقة 110 سنة 1644م ذكرا لرجل اسمه " خليل بن موسى تكرور، من طائفة الخبازين. وكان من أهلها، أيضا، المغاربة، فقد ورد في الوثيقة 114 سنة 1609م "تنبيه على الطحانين والخبازين ألا يتعرضا لطحان المغاربة".
 
تطورالحجم السكاني للمدينة واختلاله مؤخرا:
 
 
            كانت القدس كغيرها من بلاد الشام ماهولة بالعرب وغيرهم قبل الإسلام، فهي دائما مقصودة لمعالمها وموقعها _ على حافة وادي النار المفضي إلى لبصحراء _ وقد انتقلت إليها قبائل شتى بعد الإسلام لتصبح عربية خالصة إلا من بعض الأقليات؛ مذكرين هنا بما شرطه النصارى عندما سلموا مفاتيح بيت المقدس لعمر بن الخطاب" ألا يجاورهم فيه يهودي" وقد كان ذلك بادئ الأمر، ولكنهم تسللوا إليها عبر القرون، فكان لهم فيها حضور محدود جدا في القرن السادس عشر.
        ومن خلال " تتبع تطور عدد السكان في المدينة المقدسة؛ ندرك عدم وجود أقلية يهودية في المدينة طوال تاريخها منذ الشتات الأخير وحتى القرن التاسع عشر عندما ظهرت الحركة الصهيونية، فمثلاً، وفي القرن الحادي عشر لم يكن موجوداً في المدينة سوى يهودي واحد، وفي القرن السادس عشر سُجل وجود 150 يهوديا، وهي نسبة ضئيلة جدا، إذ بلغ عدد سكان لواء القدس في نهاية القرن السادس عشر42155 نسمة".(http://209.85.229.132 بتصرف). وكان المسيحيون في المرتبة الثانية بعد المسلمين، وقد تقدم الحديث عن مذاهبهم في الفقرة السابقة.
   وكان لطائفة اليهود شيخ منهم يتولى أمورهم، وتشير الوثيقة 270 سنة 1663م إلى إذن الحاكم الشرعي "عبد الباقي أفندي بن محمد" لياسف بن إبراهيم اليهودي أن يذبح لطائفة اليهود بالقدس لكونه إسرائيليا عندهم، وأن ذلك كان بحضور حييم ولد يهودا اليهودي شيخ طائفة اليهود بالقس الشريف. وتشير الوثيقة 60/1653 إلى اعتماد "حييم قرة وحييم أبي حلقة متكلمين على طائفة اليهود بالقدس". وقد ورد في الوثيقة 645 سنة 1604 ذكر طائفة اليهود القرايين، ولعل المقصود بهم الذين يقرؤون التوراه.
 
ومن الطوائف العرقية التي كانت في القدس طائفة الجنكلة، وهم من الوافدين، منهم مسلمون ونصارى. جاء في الوثيقة 369 سنة1604م أن فخر الأعيان ادعى على: (عبدي بن عبد الله ومحمد بن عبد الله، كلاهما من طائفة الجنكلة القادمين للقدس الشريف،،،أن امرأة تدعى صبحة بنت إبراهيم من قرية لفتا اشتكت إليه أنها دفعت لرجل من الجنكلة... يدعى جرجو بن ميخائيل النصراني خلخالة فضة...) وإنما كان مقدمهم من سورية، لأنهم معدودون في الأقليات التي يتشكل منها نسيج المجتمع السوري. انظر الموقع الإلكتروني:
www.al3asefah.com/forum/index.php?showtopic=19104&st=48 - 86k
 
ومع ذلك، فقد تعايش سكان مدينة القدس على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، واشتغلوا معا في الحرف والمهن التي شاعت في ذلك الزمان، وربما ضمت الحرفة الواحدة عددا منهم دون تفريق بين مسلم ومسيحي ويهودي، وهناك حرف استقل بها اليهود تقريبا، بينما استقل النصارى بحرف أخرى، وسيتضح ذلك في أثناء البحث، اما المسلمون فقد كانت لهم مشاركة في كل الحرف تقريبا. وباختصار؛ نستطيع أن نقول: إن النسيج السكاني في مدينة القدس كان متنوعا في مكوناته وأجناسه ودياناته، متعدد المناشط والاهتمامات، منسجما مع ذاته، يتعاون أبناؤه فيما بينهم، ويسود علاقاتهم الانسجام والتفاهم، يتكافلون ويتكاملون وتظللهم جميعا سماحة الإسلام، فكان القاضي ينتصر للنصراني واليهودي من المسلم، ولأرباب الحرف من الحاكم.
 
 وقد جرت العادة أن تتناسخ الحرفة في أبناء العائلة الواحدة جيلا بعد جيل حتى صح أن تنتسب الأسرة إلى مهنة أو حرفة بعينها, تماما كما أخذت "الثلاجة والعصارة والقطاعة ونحوها أسماءها من أفعالها التي غلبت عليها... ومن هنا كانت دلالة صيغ المبالغة في العربية.