كنوز نت - بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي


صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان (17)
رسالةٌ إلى المفاوضين والوسطاء من معتقلي سدي تيمان
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
انتهى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتوقفت الحرب الخشنة القاسية فيه، وبدأ المواطنون في القطاع يتحسسون أحياءهم ومناطق سكناهم المدمرة، يتلمسون فيها حياتهم، ويستعيدون أشكالها البسيطة وصورها المتواضعة، ويبنون بأيديهم العارية وإمكانياتهم البسيطة المتواضعة، بل المعدومة فعلاً، بيوتهم التي يرجون أن تؤويهم فيها وتسترهم، خياماً وأكواخاً وبيوتاً من شعرٍ وخشبٍ وألواح وصفائح، لكن بأملٍ وثقةٍ ورجاء، لا يقلل منه الجوع والفقر والضعف والعوز والفاقة والحاجة، ولا يفتر همة العمل فيها الفقد والخسارة، والجرح والإصابة، وأخيراً الشتاء والمطر والبرد والزمهرير والعواصف والرياح العاتية، وتسلل المياه إلى خيامهم، وجريانها سيولاً تجرف متاعهم وثيابهم المتبقية.
إلا أن الحرب الخشنة القاسية، الظالمة الحاقدة، القمعية المستبدة، السادية العنصرية، ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين عموماً في مختلف السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وفي معتقل سدي تيمان السيئ السمعة والصيت على وجه التحديد، الذي تجاوز في سيرته السيئة وفحش معاملته وقسوة حراسه، معتقلات غوانتانامو وأبو غريب وقاعدة بانغرام، لم تنته بعد، ولم تتوقف إجراءاتها القاسية وسياساتها المتشددة ومعاملة إدارتها العنيفة، بل ازدادت عنفاً وتطرفاً، واتسع نطاقها وشملت كل الأسرى، وبالغت إدارتها وهي الخاضعة لجيش الاحتلال وسلطات وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، في ممارسات التعذيب والقمع والإهانة، وتمادت في اقتراف الموبقات وارتكاب مختلف أشكال الجرائم الفاحشة بحق الأسرى والمعتقلين.
ربما سلطت المدعية الإسرائيلية التي نشرت تسجيلاً يوثق جريمة اغتصاب معتقلٍ فلسطيني في معتقل سدي تيمان، على أيدي مجموعة من حراس المعتقل، الذين استقبلوا يوم أمس خلال محاكمتهم الهزلية بالهتافات والأغاني والأهازيج، تأييداً لهم، ودفاعاً عنهم، وابتهاجاً بما قاموا به، وتشجيعاً لغيرهم، الضوء من جديد على هذا المعتقل السيئ الذي أنشئ خصيصاً لمعتقلي قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، وأخرج بأوامر مباشرة ومقصودة عن دائرة الرقابة والتفتيش التابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية، فأصبح كل حارسٍ وسجانٍ فيه حراً فيما يفعل، وغير مسؤولٍ عما يتصرف، إذ لا يعاقبه القانون ولا يدينه، ولا يحاسبه المسؤولون على تصرفاتهم، ولا يعيبون عليهم ما يقومون به، وكأن الأسرى والمعتقلين ليسوا بشراً، بل هم دون "الحيوانات" بكثيرٍ، فلا حرمة لهم ولا حقوق، ولا رحمةً معهم ولا رفق بهم، ولا اهتمام بشأنهم ولا تقدير لظروفهم.
في هذا المعتقل لا يحرم المعتقلون من الطعام والشراب وحسب، بل يشبحون فيه إلى السقف من أيديهم المكبلة خلف ظهورهم لساعاتٍ طويلةٍ، ويقيدون إلى حلقاتٍ مثبتة على الأرض وفي الجدران، ويعزلون في زنازين ضيقة، ويتعرضون للضرب الموجع والتعذيب المتواصل، وتشج رؤوسهم، وتكسر عظامهم وتهشم أسنانهم، وتسيل دماؤهم، ويقتل تحت التعذيب بعضهم، ويعاني من نجا منهم من أوجاع لا تفارقهم، وتباريح لا تغادرهم، فلا فراش يريح أجسادهم، واليوم في ظل البرد والشتاء لا غطاء يدفئهم، ولا ثياب تحميهم، وكانوا في فصل الصيف يعانون من حرارته العالية.
في هذا المعتقل المنافي للإنسانية، والمخالف لكل القوانين والاتفاقيات والأعراف الدولية المرعية الإجراء، والمعزول عن العالم، والممنوع على اللجنة الدولية للصليب الأحمر زيارته، وعلى لجان حقوق الإنسان متابعته، والمحروم معتقلوه من المثول أمام المحاكم العادلة، والشكوى من المظالم وسوء المعاملة، يعاني فيه الأسرى والمعتقلون من سياسة التجويع والتعطيش، والحرمان من أبسط حقوقهم في الطعام والشراب والنوم والدواء والعلاج، إذ يشكو من فيه ومن خرج منه وتحرر، من النحافة والضعف، ومن المرض وسوء التغذية، إذ يحرمهم السجانون من الطعام أياماً طويلة، وإن سمحوا لهم به فيكون بكمياتٍ قليلة جداً، لا تكفي حاجتهم ولا تنفع صحتهم، ويمتنعون عن علاجهم قصداً، ويتركونهم في جراحهم يعانون عمداً، وهم يعلمون أن حرمانهم من العلاج والدواء هو حكمٌ مؤكدٌ بالإعدام.
رسالة الأسرى المحررين من هذا الباستيل الإسرائيلي اللعين، إلى المفاوضين الفلسطينيين في القاهرة والدوحة، وإلى كل الوسطاء العرب والأجانب، رسالةٌ صريحةٌ واضحةٌ من الأسرى والمعتقلين الذين ما زالوا في معتقل سدي تيمان، مفادها ضرورة إدراج هذا المعتقل ضمن جدول أعمال المفاوضات، وفرضه على طاولة المفاوضات كملفٍ أول، وموضوعٍ أساسٍ لا يمكن الانتقال إلى غيره قبل حله ووضع نهايةٍ حقيقية له.
والمطالبة بإصرار بإغلاقه، وتحرير من فيه من الأسرى والمعتقلين، وتخليصهم مما يطلق عليه الإسرائيليون أنفسهم "جهنم" و "الجحيم"، حيث يتفنن الحراس والسجانون في ابتداع أساليب التعذيب والإهانة، النفسية والمعنوية والجسدية، ويبتكرون وسائل شيطانية وأساليب وحشية، في محاولةٍ للانتقام منهم ومحاسبتهم على ما قاموا به يوم السابع من أكتوبر 2023، ولعلهم يعلمون أنهم أجبن من أن يواجهوهم طلقاء، وأن يتصدوا لهم في الميدان، فغلاف غزة يشهد على الرجال المسربلين بالسلاسل والأغلال، كيف كانوا أسود الوغى وأبطال الطوفان.