.jpeg)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
مفلح طبعوني… الشاعر الذي التقيته في الحروف
بقلم: رانية مرجية
لم ألتقِ به يومًا.
لم أجلس معه على فنجان قهوة في مقهى الناصرة،
ولم أسمع صوته يتهجّى القصيدة كما كانت تنفلت من وجع الأرض.
لكنّي — ويا للمفارقة — عرفته أكثر مما يعرف الإنسان من جاوره عمرًا.
عرفته من بين السطور، من عطر الحرف، من ذلك الوجع الفلسطيني الذي يكتب بالدم ولا يشيخ.
حين يرحل شاعر مثل مفلح طبعوني،
لا يغيب شخص، بل يغيب نَفَسٌ من هواء القصيدة.
هو من أولئك الذين لا يمكن حصرهم في سيرةٍ ذاتية ولا في ديوانٍ محدود الصفحات؛
فالرجل كان وطناً يكتب نفسه بالحبر، ويُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية بحروفٍ من نورٍ ومقاومة.
وُلد مفلح طبعوني في الناصرة، وعاش العمر شاهداً على التحوّلات،
مهندسًا في مهنته، وشاعرًا في روحه، وإنسانًا في كل ما كتب.
في قصائده، تتعانقُ البساطة بالعمق، والهمّ الشخصيّ بالوجع الجمعيّ،
فيغدو القارئ أمام نصّ يقطر صدقًا، ويمتد في القلب كجذر زيتونٍ لا يزول.
لم ألتقِه، نعم.
لكنّي حين قرأتُه، شعرتُ أنني أجالسه — هناك، في مكانٍ بين الصمت والكلمة،
حيث يتخفّف الإنسان من خوفه، ويصبح الشعر وطناً مؤقّتاً للروح.
كنتُ أسمع فلسطين وهي تنطق من بين أسطره:
الناصرة، الجليل، الأرض، الإنسان، الكادح، الأم، والمستقبل الذي لا يخضع.
برحيله اليوم، يخسر الأدب الفلسطيني صوتاً لا يصرخ، بل يهمس بما يكفي ليُحدث زلزلة.
فهو من القلائل الذين علّمونا أن الشاعر ليس خطيبًا ولا واعظًا،
بل ضميرٌ يمشي على قدمين،
يحمل الوطن في قصيدة، والقصيدة في قلبه، والقلب في جيب معطفٍ متعب.
يا مفلح،
أيها الشاعر الذي أضاء العتمة بحرفه،
نم قرير العين،
فالكلمة التي تركتها خلفك ما زالت تتنفس.
ستبقى في ذاكرة القارئ وفي ذاكرة الأرض،
لأنك كتبت بصدقٍ لا يعرف الزوال،
ولأن الحرف، حين يُولد من وجعٍ حقيقي،
يصبح أبقى من الجسد، وأقوى من الموت.
لم ألتقِك وجهًا لوجه،
لكنّني التقيتُك في القصيدة —
وهل أعظم من لقاءٍ تُباركه الحروف وتخلّده الذاكرة؟
رحمك الله أيها الشاعر الكبير،
وسلامٌ على روحٍ عرفت كيف تجعل من الشعر وطنًا حين خانت الأوطان،
ومن الحروف بيتًا حين أُغلقت الأبواب.
06/11/2025 07:33 am 35
.jpg)
.jpg)