.jpg)
كنوز نت - رانية مرجية
الضوء لا يُربَط بعد اليوم
رانية مرجية
الفصل الأول – حين كان الضوء يبحث عن بيتٍ له
في البدء، لم يكن الضوء سوى أنينٍ أبيض يبحث عن جسدٍ يحتمله.
وحين فُتح الباب الحديدي للمؤسسة، لم يدخل أحد — بل انسكبت الأرواح على الأرض كالماء.
الهواء هنا يشيخ سريعًا، واللمس له ذاكرة، والجدران تعرف الأسماء حتى وإن نُسيت.
في هذا المكان، لا يُسأل أحد عن اسمه، بل عن شكل الصمت الذي يرافقه.
من ينسى الطريق لا يفعل لأنه ضلّ، بل لأن الأرض نفسها تغيّر شكلها في كل خطوة.
ومن يتعلّم المشي من جديد لا يفعل ليصل، بل ليحفظ اتزانه في عالمٍ يدور ببطء.
الليل ليس ظلمة.
إنه كائن صغير يحوم فوق الأسرّة ليطمئن على أحلامٍ لم تكتمل.
وحين يسكت كل شيء، يتكلّم الجوع بلغةٍ تشبه الصلاة: ليست جوعًا للطعام، بل جوعًا للحضن الأول، للمفتاح الذي أُغلق على الطفولة.
وفي الصباح، يبدأ الضوء عمله.
لا يدخل من النوافذ، بل من العيون التي ما زالت تؤمن أن في الخارج شجرةً لم تسقط بعد.
قال أحدهم ذات صباح:
“نحن لسنا مجانين. نحن الذين تذكّرنا أكثر مما يجب.”
الفصل الثاني – الخبز
اسمه سليم، لكن الأسماء في هذا المكان لا تملك يقينها.
كان يخبّئ الخبز تحت الوسادة لا خوفًا من الجوع، بل خشية أن يختفي الأمان.
في الليل، يمدّ يده إلى الرغيف، يتأكد أنه ما زال هناك، ثم يبتسم ويغفو.
يحلم بخبزٍ يولد من الهواء، بخبزٍ لا تصنعه يد، بل يُنبت كالسلام.
سألوه:
– لماذا تخبّئ الخبز يا سليم؟
قال:
– لأن الليل طويل… والسيّدة التي كانت تحضنني لم تقل لي متى ينتهي.
علّموه الانتظار كما تُجرى عملية في القلب.
خمس دقائق أمام تفاحةٍ لا يأكلها: الأولى عاصفة، الثانية عرق، الثالثة صلاة، الرابعة بكاء، والخامسة… هدوء يشبه النور.
ومن يومها، فهم أن الجوع لا يُروى بالطعام، بل بكلمةٍ صادقة تقول:
“ابقَ… لن نتركك تنام خائفًا بعد اليوم.”
الفصل الثالث – اليد
ليلى جاءت وذراعاها درعٌ من خوفٍ قديم.
كانت تضرب لا لتؤذي، بل لتتكلّم.
قالت يومًا للمشرفة:
– أنا لا أضربك، أنا أقولك.
كانت تلك أجمل غلطة لغوية في التاريخ — لأن اليد كانت لغتها الأولى، والضربة مفردتها الوحيدة.
حين جلست المشرفة قربها دون لمس، بدأ الجدار الداخلي يتشقّق.
وفي صباحٍ هادئ، وضعت يدها في يدها وقالت:
– هذه ليست حربًا… هذه يد.
منذ ذلك اليوم، صارت ليلى تبدأ صباحها بعبارةٍ صغيرة أمام المرآة:
“صباح الخير، لا تضربي أحدًا اليوم.”
وفي ليلةٍ انقطعت فيها الكهرباء، أمسكت بيد جارتها وقالت:
– لا تخافي، النور هنا.
وكانت تعني صدرها.
الفصل الرابع – الصوت
مريم لا تتكلّم كثيرًا.
الصوت عندها ذاكرة الخطر.
صوت الباب = قلبٌ يرتجف.
صوت الصراخ = حيوان جائع.
صوت الخطى = ريحٌ تسرق النفس.
طلبت منها الأخصائية أن ترسم ما تسمع، فرسمت دوائرَ تتّسع حتى ابتلعت الورقة.
قالت: “هذا صوت المفتاح حين يغضب في القفل.”
ومن يومها، صار الرسم طريقها نحو الصمت.
وحين انكسر كأسٌ ذات يوم، لم تبكِ.
وضعت يديها على أذنيها، ثم قالت بهدوءٍ غريب:
“لا أحد يُغلق الصوت… لكنه يمكن أن يهدأ.”
صارت الأغنية علاجها.
وصار الصمت مكانًا تُقيم فيه بأمان.
حتى جاء اليوم الذي سمعت فيه ضحكةً عالية، ولم تخف.
قالت بابتسامةٍ مطمئنة:
“ليس كل صوتٍ له أسنان.”
الفصل الخامس – الظل
عِمْران كان يضحك كثيرًا.
ضحكته درعٌ ضدّ العالم.
حين اقترب منه الخوف، واجهه بالضحك.
لكن الضحك لا يُدفئ الجسد.
في جلسة العلاج، سأله المرشد:
– متى قلت “لا” آخر مرة؟
قال:
– لم أجرّبها بعد.
منذ ذلك اليوم، كتبها على الحائط: لا.
حتى صارت الكلمة صديقته.
وحين حاول أحدهم لمسه دون إذن، قالها بهدوءٍ صادق:
“لا.”
تغيّر شيء في الهواء.
الظلّ الذي كان يخيفه صار يحتضنه.
وفي لوحته الأخيرة، رسم جسدًا صغيرًا يقف داخل ظله، وكتب:
“حين تعرف أين يقف ظلك، تعرف أين تبدأ حريتك.”
الفصل السادس – القوانين الصغيرة
في المؤسسة، لا قوانين رسمية.
لكن هناك اتفاقات غير مكتوبة، ضرورية للبقاء:
من يفتح الثلاجة، يترك قطعةً لآخرٍ لم يأتِ بعد.
من يخاف، يضع يديه في جيبه.
من يسمع اسمه ولا يعرف من ناداه، يجيب: “أنا هنا.”
من يبكي، يتكئ على السرير الأقرب.
من يجد طائرًا، لا يمسكه، بل يروي له ما حدث اليوم.
هذه القوانين الصغيرة هي الجهاز المناعي للروح.
وفي المساء، يرددون بصوتٍ خافتٍ صلاةً غير مكتوبة:
“لا أحد وحده.
لا أحد جائع الليلة.
لا أحد يُربط الضوء.”
الفصل السابع – الحكايات الليلية
حين يصمت الممر، يبدأ الليل الحقيقي.
يجلسون في الضوء الخافت كجوقةٍ صغيرة من الناجين.
سليم يقول:
– لم أخبّئ الخبز اليوم.
ليلى تضحك:
– ولم أضرب أحدًا.
مريم تهمس:
– يدك كانت تشبه المطر.
وعِمْران يقول:
– قلت “لا” مرتين اليوم… واحدة للحزن، وواحدة للذي حاول أن يفتش حقيبتي.
ثم يسود الصمت.
صمتهم ليس فراغًا، بل امتلاء.
الريح تمرّ عبر النوافذ الحديدية، كأنها لحنٌ جديد للطمأنينة.
الفصل الثامن – الزيارة
دخل الزوّار.
أمهاتٌ متردّدات، يحملن الفاكهة والذنب معًا.
الآباء يبتسمون بخجل، والأبناء يبدون أكبر من أعمارهم.
سليم قال لأمه:
– لم أعد أختبئ، ماما.
ليلى قالت لأمها حين طلبت الحضن:
– نعم، اليوم اليد لا تخاف.
مريم قالت لأختها الصغيرة:
– صوتك يشبه الأمان.
وعمران قال لوالده:
– لم أصبح قويًا… فقط صرت هادئًا.
أما حسن، فابتسم لأمه وقال:
– لم يتأخر الوقت… احمي نفسك الآن.
قبل أن يغادروا، نادتهم ليلى من آخر الممرّ:
“لا تنسوا… الضوء لا يُربط بعد اليوم!”
الفصل التاسع – السماء الداخلية
في الصباحات الأخيرة، شعروا أن الهواء تغيّر.
الريح أهدأ، والسور أقلّ صلابة.
كتب أحدهم على الجدار:
“من فقد السماء، عليه أن يخلقها من جديد.”
صعدوا إلى السطح، وبدأوا يرسمون سماءهم الخاصة:
سليم أرادها مليئة بالخبز.
ليلى أرادتها بلا خوف.
مريم أرادتها لحنًا.
حسن أرادها بلا أسرار.
وعمران أرادها تضع ظلّه في مكانه الصحيح.
عندها فهموا:
“السماء ليست فوقنا… بل فينا.”
الفصل العاشر – الضوء
بعد سنوات، عاد الزائر القديم.
المكان كما هو، لكن الضوء أهدأ، كأنه تعلّم كيف يكون.
على الجدران لوحاتهم: اليد، العصفور، الرغيف، السماء.
سأل المشرفة:
– أين سليم؟
قالت: “يعلّم الأطفال الانتظار.”
– وليلى؟
“تخيط في كل ثوبٍ جيبًا للطمأنينة.”
– ومريم؟
“تعزف الألوان.”
– وحسن؟
“كتب كتابًا عن الغفران.”
– وعمران؟
“يعلّم الناس كيف يقفون في ظلّهم دون خوف.”
وقف أمام اللمبة القديمة التي لم تنطفئ يومًا.
أدرك أن الضوء لم يكن مربوطًا.
نحن الذين كنّا نربطه بخوفنا.
خرج من الباب الحديدي، والهواء مليء بالضحك الخافت.
رأى سليم يوزّع الخبز، ليلى تخيط الأمان، مريم ترسم الغناء، عمران يحتضن ظله، وحسن يقرأ للريح.
وحين التفت، رأى اللمبة ما تزال تضيء.
عندها فقط، فهم:
“الضوء لا يُربَط بعد اليوم.
إنه ينتظر فقط من يفكّ خوفه بالحب.”
04/11/2025 07:54 am 46
.jpg)
.jpg)