كنوز نت -  حسين السياب | شاعر وباحث | عراقي


بين ربيع الحروف وثقل التفاحة: قراءة في النص الشعري ( شراقي ) للشاعرة آيات عبد المنعم 

 حسين السياب | شاعر وباحث | عراقي



يقدّم النص الشعري "شراقي" للشاعرة آيات عبد المنعم مشهداً شعرياً متماوجاً بين الانكفاء على الذات والانفتاح على جماليات اللغة. يقوم النص على ثنائية النفي والإثبات: رفض الدخول إلى عوالم الآخر من جهة، والإصرار على بناء عالم خاص من الحروف من جهة ثانية. ومن هنا يتأسس صراع داخلي يكشف عن توتر بين الرغبة في التحرر ومواجهة ثقل الواقع.

تفكيك البنية الدلالية:
يفتتح النص بعبارة حاسمة:
"لا حاجةَ لي بالدخولِ إلى عالمِك أو عالمِ سواك"
هذا الاستهلال يحمل موقفاً وجودياً صريحاً، يُعلن القطيعة مع الآخر ويؤكد استقلالية الذات. لكنها ليست قطيعة سلبية، بل فعل تحرّر من التبعية العاطفية:
"لا بتلاتٍ في خمائلِ العمرِ، لأراهنَ عليها"
الرهان هنا يتجاوز الفعل الاقتصادي إلى بعد رمزي، إذ يتحوّل العمر إلى خمائل، والرهان إلى مقامرة على زهرات ذابلة.

المجاز والتكثيف الرمزي:
من هذا التأسيس الدلالي تتولد صور رمزية تكشف عمق التجربة. ففي المقطع الأوسط نقرأ:
"أفضحُ أمرَ الجاذبيّةِ/ حين تُقيّدُ تفاحةً عطنةً لجوارِ قلبي"
التفاحة، رمز الإغواء والمعرفة في التراث، تنقلب هنا إلى تفاحة عطنة، أي إلى مركز ثقل فاسد يهدّد القلب بالتحلل. اختيار لفظة عطنة يكشف عمق المفارقة، فهي تشير إلى فساد داخلي مستتر خلف قشرة خارجية قد توهم بالكمال، بما يعزز نقد الزيف الظاهري.

جدلية الجرح والتوازن:
النص يستعيد زمام التوازن في خاتمته:
"الآنَ، يطبّبُ الهواءُ جرحي/ يقطّبُه على غيرِ عِبرة للجمالِ/ يعيدُ اتِّزاني"
الهواء هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل طاقة شفائية، قوة غير منظورة تعيد للذات قدرتها على الصمود. وتبلغ الصورة ذروتها في استعارة بصرية حادة:
"كمن كسرَ أنامله عنوةً، وأعادَ في لوحةِ الصبرِ بنائي"
إنها صورة تقوم على مبدأ الهدم للإنشاء: الكسر فعل تدمير، لكنه يتحول إلى فعل إعادة بناء، حيث الصبر يتحول إلى لوحة جديدة بألوان أحادية صريحة ورطبة، ملؤها النور والخزامى.

البعد الأسلوبي والجمالي:
يتسم النص بلغة متماسكة تمزج بين المجاز المكثف (التفاحة، الهواء، الأنامل) والإيقاع الداخلي الذي تولده التكرارات النحوية (لا حاجة/ لا أنتظر/ لا بتلات). الصور الشعرية ترتكز على التحوّل من السلب إلى الإيجاب: من الخواء إلى التوازن، من الخسارة إلى الصبر. وثمة توتر جمالي بين الرمزية (التفاحة، الخزامى) واليومي الواقعي (الرهان، السباق، الحواجز)، وهو ما يمنح النص بعداً حداثياً بارزاً.


خاتمة:
يخرج نص الشاعرة آيات عبد المنعم عن دائرة البوح العاطفي المباشر، ليؤسس لكتابة وجودية تواجه الذات والآخر معاً. إنه نص ينهض من الخسارة ليعيد صياغة التوازن، مؤكداً أن الحروف يمكن أن تتحول إلى أداة شفاء وبناء جديد. وبهذا يشكّل النص تجربة شعرية ناضجة، مفتوحة على مستويات متعددة من القراءة النقدية، وقادرة على الحضور في فضاء الشعر العربي المعاصر.

النص الشعري:

 شراقي..

لا حاجةَ ليِ بالدخولِ إلى عالمِك
أو عالمِ سواك
هانئةٌ أنا لكوني لا أنتظر!
أقلعُ أشواكي،
وأنهلُ من ربيعِ حروفي العِطرِ الغافي..
لا بتلاتٍ في خمائلِ العمرِ، لأراهنَ عليها
عدوًّا، تقطعُ أنفاسي؛
لستَ خيلاً للسباقِ، ولستُ مرابيةً للحواجز
أقايضُ اليومَ بالأمسِ
وغدي بالسدرِ الغرير الآتي..
أعلمُ تمامَ اليقينِ حدَّ خسارتي
أفضحُ أمرَ الجاذبيّةِ
حين تُقيّدُ تفاحةً عطنةً لجوارِ قلبي
لها أن تفسده
لها أن تُرائيه
ولها أن تجعله ثقيلاً، مقعدًا مفعمًا بالخواءِ...
الآنَ، يطبّبُ الهواءُ جرحي
يقطّبُه على غيرِ عِبرة للجمالِ
يعيدُ اتِّزاني..
كمن كسرَ أنامله عنوةً،
وأعادَ في لوحةِ الصبرِ بنائي..
ألوانُهُ الأحاديةُ ظَلّت صريحةً، رطبةً
ملؤها النورُ، الخزامى
وبيادرُ الحبِّ "الشراقي"