
كنوز نت - مصطفى معروفي
إلياس فرحات
مصطفى معروفي
ــــ
اليوم كنت أوثر أن أكتب عن الشاعر المخضرم سويد بن أبي كاهل صاحب القصيدة الشهيرة التي تقول أبياتها الأربع الأولى:
بَــسَــطَت رابِــعَةُ الــحَبلَ لَــنا
ْفَــوَصَلنا الــحَبلَ مِنها ما اِتَّسَع
حُــرَّةٌ تَــجلو شَــتيتاً واضِــحاً
ْكَشُعاعِ الشَمسِ في الغَيمِ سَطَع
صَــقَــلَتهُ بِــقَــضيبٍ نــاضِــرٍ
ْمِــن أَراكٍ طَــيِّبٍ حَــتّى نَصَع
أَبــيَضَ الــلَونِ لَــذيذاً طَــعمُهُ
ْطَــيِّبَ الــرِيقِ إِذا الرِيقُ خَدَع
لكن عدلت عن ذلك إلى الكتابة عن شاعر معاصر كنت أود التحدث عنه من قبل ،وهو الشاعر المهجري اللبناني الكبير إلياس فرحات.
إلياس فرحات (1893 ـ 1976)،ولد الشاعر في قرية كفر شيما بلبنان وفيها تلقى تعليمه الأولي ،ولكنه سرعان ما ترك الدراسة ليتعلم مهنة يدوية،وفي سنة 1910 هاجر إلى البرازيل للعمل هناك،وكان في أوقات فراغه وهو في البرازيل ينكب على تثقيف نفسه بنفسه بالقراءة والاطلاع فتمكن من ضبط قواعد الكتابة ومن ممارسة النظم.وقرية الشاعر كانت مشتلا لرجال الثقافة والعلم والصحافة،فمنها آل اليازجي وآل شميل وآل تقلا وهم من خدموا على التوالي اللغة العربية والثقافة والصحافة.
في بدايته الأدبية كان فرحات يقول الشعر العامي ومنه تدرج إلى الشعر العربي الفصيح،وهو أخذ العلم من الحياة لا من المدرسة كما قال :
لئن لم أكن أدخل المدْرساتِ
صغيرا ،ولا بعد هذا الكِبرْ
فذا الكون جامعة الجامعاتِ
وذا الــدهر أستاذها المعتبرْ
والشاعر حينما هاجر إلى البرازيل صحب معه خصلة شعر لفتاة من قريته أحبها،ولكنها زفت لرجل آخر تحت أوامر أهلها وبسبب المال،يقول الشاعر إلياس فرحات:
خُصْلَةُ الشَّعْرِ التي أَعْطَيْتِنِيهَا
عِــنْدَمَا الــبَيْنُ دَعَــانِي بِالنَّفِيرْ
لَمْ أَزَلْ أَتْلُو سُطُورَ الحُبِّ فِيهَا
وَسَــأَتْلُوهَا إِلَــى اليَوْمِ الأَخِيرْ
ويتأسف لأن الغلط لم يقع منه :
خُنْتِ عَهْدَ الحُبِّ لا بَأْسَ فَإنِّي
مُــكْتَفٍ بِــالأَثَرِ الــغَالِي الثَّمِينْ
فَــإِذَا مَــا عُــدْتُ أَحْيَا بِالتَّمَنِّي
بَــعْدَ أَنْ مَــنَّيْتِنِي عَــشْرَ سِنِينْ
أَحْــمَدُ اللهَ فَــمَا الإخْلافُ مِنِّي
إِنَّــنِي كُــنْتُ لَكِ الصَّبَّ الأَمِينْ
رَاجِعِي سِيرَةَ حُبِّي .. رَاجِعِيهَا
فَــهْيَ نُــورٌ سَــاطِعٌ لِــلْمُسْتَنِيرْ
وَإِذَا مَــرَّتْ بِكِ الرِّيحُ سَلِيهَا
إِنَّهَا تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِي الكَثِيرْ
والشاعر إلياس كان خياميا بامتياز ،فهو عاشق و مدمن على احتساء الخمر،وأنا في يفاعتي كنت أسمع مطربا مغربيا مشهورا اسمه أحمد البيضاوي يتغنى بقصيدة رقيقة غاية في الروعة وبلحن جميل ، وكنت لا أعرف من هو كاتبها حتى أتيحت لي الفرصة للاطلاع على شعر إلياس فرحات فوجدت القطعة الغنائية إياها من ضمن أشعاره الغزلية الرائعة:
حــبيبي تــعالَ تــجد منزلك
مــعداً كما كان من قبل ُ لك
تعال فما احتل َ قلبي سِواك
وغيرُك في خاطري ماسلك
تــعال فــهذا بــساط ُ الربيع
يــوشي بــأزهاره مــخملك
إلى آخر القصيدةالتي تذوب رقة وعذوبةً.
بدأ الشاعر حياته في البرازيل بتربية الخنازير،ثم عمل في تنضيد حروف المطبعة،ثم عمل في الاتجار بالأطعمة الشرقية التي كان يصنعها بيده ولم تربح تجارته،وبقيت هكذا على هذه الحال مدة عشرين سنة في الكفاح المرير من أجل كسب لقمة العيش ،وعن هذه الحياة كتب قصيدة من أروع قصائده بعنوان:(حياة المشقات) يقول فيها:
أُرَاقِــبُ فِي الظَّلْمَاءِ مَا اللَّيْلُ يَحْجُبُ
وَأَقْــرَأُ فِــي الأَسْــحَارِ مَــا اللهُ يَكْتُبُ
وَأَسْتَعْرِضُ الأَيَّامَ يَوْمِي الَّذِي مَضَى
دَلِــيلٌ عَــلَى يَــوْمِي الَّــذِي أَتَــرَقَّبُ
فَـــلاَ تَــسْأَلُوا عَــنِّي وَحَــظِّي فَــإِنَّنَا
لأَمْثَالِ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مَضْرَبُ
وفي هذه القصيدة يسوق هذا البيت الذي هو غني عن أي شرح أو تفسير،إذ فيه يصور الشاعر نفسه كأي إنسان بدون مساحيق:
وَمَـــا أَنَـــا إِلاَّ كَــالــزَّمَانِ وَأَهْــلِهِ
أَعَافُ وَأَسْتَحْلِي وَأَرْضَى وَأَغْضَبُ
ورغم أن الشاعر عاش الظروف القاسية وعانى من الحرمان والجوع وحتى العري فإنه لم ينس التغني بوطنه لبنان،ولم ينس كذلك بأن لبنان هو جزء من وطنه الشام وهو سوريا ولبنان.
والمعروف عن الشاعر إلياس فرحات أنه مسيحي الديانة ،ولكن نجده يشيد بالإسلام وبنبيه محمد (ص)،فانظروا إلى قصيدته هذه وتأملوها جيدا:
غَــمَرَ الأَرْضَ بِــأَنْوَارِ النُّبُوَّةْ
كَوْكَبٌ لَمْ تُدْرِكِ الشَّمْسُ عُلُوَّهْ
لَــمْ يَــكُدْ يَلْمَعُ حَتَّى أَصْبَحَتْ
تَــرْقُبُ الــدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا دُنُوَّهْ
بَــيْنَمَا الــكَوْنُ ظَــلاَمٌ دَامِــسٌ
فُــتِحَتْ فِــي مَــكَّةَ لِلنُّورِ كُوَّةْ
وَطَــمَى الإِسْلاَمُ بَحْرَاً زَاخِرَاً
بِـــأَوَاذِيِّ الْــمَعَالِي وَالــفُتُوَّةْ
مَنْ رَأَى الأَعْرَابَ فِي وَثْبَتِهِمْ
عَرَفَ البَحْرَ وَلَمْ يَجْهَلْ طُمُوَّهْ
إنَّ فِــي الإِسْــلاَمِ لِلْعُرْبِ عُلاً
إنَّ فِــي الإِسْــلاَمِ لِلنَّاسِ أُخُوَّةْ
فَــادْرُسِ الإِسْــلاَمَ يَــا جَاهِلَهُ
تَــلْقَ بَــطْشَ اللهِ فِــيهِ وَحُنُوَّهْ
يَـــا رَسُـــولَ اللهِ إِنَّـــا أُمَّــةٌ
زَجَّهَا التَّضْلِيلُ فِي أَعْمَقِ هُوَّةْ
ذَلِــكَ الــجَهْلُ الــذِي حَــارَبْتَهُ
لَــمْ يَــزَلْ يُظْهِرُ لِلشَّرْقِ عُتُوَّهْ
قُــلْ لأَتْبَاعِكَ صَلُّوا وَادْرُسُوا
إِنَّــمَا الــدِّينُ هُدَىً وِالْعِلْمُ قُوَّةْ
والشاعر كان له في معركة فلسطين أكثر من قصيدة،وفي إحدى المرات ربح جائزة في قصيدة له عن قصيدة فيها ،فحولها رأسا إلى صندوق إغاثة فلسطين.وقد قرأتله قصيدة طائية في أمريكا وفي سياستها الماكر احببت أن أثبتها هنا للقراء وهي قصيدة :(حكمة الأفعى ):
قالت الأفعى لأمريكا اسمعي
إن تــقليدك لي عين الشطط
أيــن مــني أنــت يامن سمها
بــغية التمويه بالشهد اختلط
أنـــا لا أنــكــر إنــي حــية
رضــي العالم منّي أو سخط
أنــا لا يــهتف بــالسلم فــمي
ويــدي ترسم للحرب خطط
أنــا لا أنــصر لــصاً إن من
ينصر اللص من اللص أحط
أنتِ فيك السم لا حصـر له
وأنـــا الــســم بــنابيَّ فــقط
في سنة 1959 عاد الشاعر إلى وطنه لبنان،ولما لم يجد سبيلا للعيش فيه عاد أدراجه من حيث أتى إلى مهجره من جديد.
وأنا أقرأ ترجمة الشاعر إلياس فرحات تبادر إلى ذهني الشاعر المصري عبد الحميد الديب الذي عاش بئيسا ومات بئيسا,وتساءلت مع نفسي :
لماذا يكون من قدر الشاعر أن يعيش البؤس في الحياة وهو الذي لم يزل يحياها مكرسا نفسه لمصارعة ومنازلة مظاهر القبح في العالم ومنها البؤس؟.
نسأل الله تعالى العفو والعافية،إنه سميع مجيب.
07/10/2025 08:00 am 106