كنوز نت - رياض عبدالواحد | ناقد | عراقي


قراءة وتأويل للنص الشعري (أسوار الحنين) للشاعر حسين السياب: فضاءات الذاكرة بين الغياب والحضور 

رياض عبدالواحد | ناقد | عراقي 




مقدمة:
تُعد القصيدة الشعرية فضاءً رحبًا تتجلى فيه أعمق المشاعر الإنسانية وأكثرها تعقيدًا، إذ تتشابك اللغة بالصورة لتخلق نسيجًا فنيًا فريدًا. وفي هذا السياق، تأتي قصيدة "أسوار الحنين" لتغوص في أعماق الذات الشاعرة، مستعرضةً تجربة وجدانية غنية بالحنين والوحدة والتمزق. ستتناول هذه القراءة تحليلًا معمقًا للقصيدة، بدءًا من نصيصها الذي يحمل مفاتيح دلالية مهمة، مرورًا بصورها الشعرية، لغتها، إيقاعها، وصولًا إلى العواطف والموضوعات التي تتناولها.

تحليل النصيص:
 "أسوار الحنين"
 التحليل الفونيمي (الصوتي)
يتكون النصيص من كلمتين تحملان إيقاعًا صوتيًا خاصًا. كلمة "أسوار" تبدأ بهمزة قطع مفتوحة تليها واو ساكنة، مما يعطيها ثقلاً صوتيًا وبداية قوية. تكرار حرف السين (س) في "أسوار" و"الحنين" يضفي نوعًا من الانسجام الصوتي الخفي، ويخلق رنينًا خفيفًا يربط بين الكلمتين. أما كلمة "الحنين" فتبدأ بلام التعريف ثم حاء مكسورة ونون ممدودة بالياء، وتنتهي بنون. هذا الامتداد الصوتي في "الحنين" يعكس طول مدة الشعور وعمقه، وكأن الصوت يطول ليجسد امتداد الحنين في النفس. اما التناغم بين الأصوات الساكنة والمتحركة، وخاصة المدود، فيمنح النصيص إيقاعًا هادئًا ومؤثرًا، يوحي بالثقل العاطفي والعمق النفسي.

التحليل الدلالي: 
يتشكل النصيص من كلمتين تحمل كل منهما دلالات عميقة ومتباينة تتفاعل لتخلق معنى جديدًا:
 "أسوار": تعني الحواجز، الجدران، أو ما يحيط بشيء ويحميه أو يحبسه. غالبًا ما ترتبط الأسوار بالمنع، الفصل، الحماية، أو السجن. في سياق عاطفي، قد تشير إلى الحواجز النفسية، أو الذكريات التي تحيط بالذات وتحد من حركتها، أو حتى الأمان الذي توفره الذكريات. الأسوار هنا ليست مادية بالضرورة، بل قد تكون أسوارًا من المشاعر أو الأفكار.
 "الحنين": هو الشوق إلى الماضي، إلى شخص، مكان، أو زمان مضى. إنه شعور عميق بالافتقاد والرغبة في العودة إلى ما كان. يحمل الحنين في طياته مزيجًا من الألم واللذة، ألم الفقد ولذة الذكرى.
عند جمعهما، يصبح "أسوار الحنين"تعبيرًا مكثفًا عن حالة نفسية معقدة. يمكن فهمها على عدة أوجه:
أولاً:
الحنين المحبوس: الأسوار تحبس الحنين، مما يعني أن الشاعر أو الذات الشاعرة محاطة بحنين لا تستطيع التخلص منه أو تجاوزه. إنه حنين يطوق الروح ويحد من حريتها.
ثانيا: الحنين الحامي:
 قد تكون الأسوار- هنا -هي الذكريات نفسها التي تحمي الحنين من الزوال، وتحفظه حيًا داخل الذات، حتى لو كان ذلك مؤلمًا. 
ثالثا: الحنين الذي يشكل حاجزًا: 
يصبح الحنين نفسه حاجزًا بين الشاعر وواقعه، أو بينه وبين المستقبل، يجعله أسيرًا للماضي.
اما الدلالة العامة للنصيص فتشير إلى حالة من الانغلاق العاطفي أو النفسي، إذ يسيطر الحنين ويصبح قوة محيطة بالذات، لا يمكن الفرار منها.
التحليل اللساني (التركيبي):
من الناحية اللسانية، النصيص "أسوار الحنين" تركيب إضافي (مضاف ومضاف إليه). كلمة "أسوار" هي المضاف، و"الحنين" هي المضاف إليه. هذا التركيب يمنح "الحنين" صفة التملك أو التحديد للأسوار، أي أنها ليست أسوارًا عادية، بل هي أسوار خاصة بالحنين. هذا التركيب الإضافي يعمق المعنى ويجعله أكثر تحديدًا، فالحنين هنا ليس مجرد شعور عابر، بل هو كيان يمتلك أسواره الخاصة، أو هو نفسه يشكل هذه الأسوار. هذا البناء اللغوي يعكس العلاقة العضوية بين المفهومين، إذ لا يمكن فصل الأسوار عن الحنين، وكأن الحنين قد بنى لنفسه حصنًا داخل الذات. التركيب الإضافي يبرز قوة الحنين وسيطرته، ويجعله محور الدلالة في العنوان.

تحليل النص الشعري وعناصره الفنية:
 الصورة الشعرية والخيال:
يُبنى النص على سلسلة من الصور الشعرية المكثفة التي تتداخل فيها عناصر الطبيعة مع المشاعر الإنسانية، مما يخلق جوًا من الغموض والحنين:
 "يرتفعُ حائطُ الغيث/ كأنَّهُ سرابٌ/ يُمسكُ بالهواء": صورة افتتاحية تجمع بين المطر (الغيث) والحائط والسراب. الحائط هنا ليس ماديًا، بل هو حاجز من المطر، يتحول إلى سراب، مما يوحي بالوهم وعدم اليقين. فكرة "يمسك بالهواء" تزيد من تجريد الصورة وتأكيد عدم جدواها أو زوالها.

"أمدُّ يَدَيَّ في ليلٍ يتوجَّس/ فتسقطُ نجمةٌ على كتفي": صورة حسية تصف محاولة الشاعر الوصول إلى شيء مجهول في ليل مليء بالترقب والخوف. سقوط النجمة على الكتف يرمز إلى بصيص أمل أو ذكرى عابرة، أو ربما ثقل الحنين الذي يحمله الشاعر.
 "وتهمسُ الظلالُ باسمكِ": إضفاء صفة الهمس على الظلال يمنحها حياة وحضورًا، ويربطها بالمحبوبة الغائبة، مما يعمق إحساس الشاعر بالوحدة والحنين.
 "يتدلّى وجهُكِ من ذاكرةٍ غائمة/ يقطرُ من عينيهِ مطرٌ قديم": صورة بديعة لوجه المحبوبة يظهر من أعماق الذاكرة غير الواضحة، وكأنها سحابة تمطر. "مطر قديم" هنا قد يرمز إلى الدموع القديمة، أو الذكريات المؤلمة التي لا تزال تنزف، أو الحنين الذي لا ينضب.
 "وأنا أتهدَّمُ بين نبضي ونبضكِ/ مثلَ شرفةٍ أكلها الصمتُ / وظلّتْ معلّقةً على خاصرةِ الريح": هذه الصورة هي ذروة التعبير عن حالة الشاعر. التهدّم بين نبضين يعكس التمزق الداخلي والضياع. تشبيه الشاعر بـ"شرفة أكلها الصمت" يوحي بالعزلة والخراب الداخلي، وأنها كانت مكانًا للحياة واللقاءات لكنها أصبحت مهجورة. "معلّقة على خاصرة الريح" تزيد من إحساس الهشاشة واللااستقرار والضياع، وكأن الشاعر كيان معلق بين الوجود والعدم، بلا سند أو قرار.

 اللغة والأسلوب:
تتميز اللغة في النص بالرقة والعذوبة، مع ميل إلى التجريد والرمزية. يستعمل الشاعر مفردات ذات إيحاءات عاطفية عميقة (حنين، ليل، نجمة، ظلال، ذاكرة، صمت، ريح). يعتمد الاسلوب على الجمل القصيرة والتراكيب الوصفية التي تخدم بناء الصورة الشعرية. يغلب على النص الطابع التأملي والذاتي، إذ يعبر الشاعر عن مشاعره الداخلية وحالته النفسية.
 الإيقاع والموسيقى الداخلية:
على الرغم من أن النص يبدو كقصيدة نثر أو شعر حر، إلا أنه يحمل إيقاعًا داخليًا نابعًا من:
 اولا :تكرار بعض الحروف والأصوات: مثل تكرار حرف السين في "أسوار" و"يتوجس" و"تسقط" و"اسمك" و"الصمت"، وحرف الميم في "يمسك" و"أمد" و"نجمة" و"تهمس" و"مطر" و"أتهدم" و"الصمت". هذا التكرار يخلق رنينًا خفيًا يربط بين الكلمات.
 ثانيا: التوازن في طول الجمل والتراكيب: مما يمنح النص تدفقًا موسيقيًا خاصًا.
ثالثا: المدود الصوتية: خاصة في كلمة "الحنين" و"الريح"، التي تساهم في إطالة النبرة وتعميق الإحساس.

 العواطف والموضوعات:
أن الموضوع الرئيس للنص هو الحنين والشوق إلى المحبوبة الغائبة، وما يترتب عليه من مشاعر الوحدة، الاغتراب، التمزق الداخلي، والضياع. الشاعر يعيش حالة من الترقب والألم، فتتداخل الذكريات مع الواقع، ويصبح الماضي حاضرًا بقوة في وجدانه. هناك أيضًا إحساس بالهشاشة والضعف أمام قوة هذه المشاعر، كما يتجلى في صورة "الشرفة التي أكلها الصمت" و"المعلّقة على خاصرة الريح".

خاتمة:
تُعد قصيدة "أسوار الحنين" نصًا شعريًا مكثفًا يعكس تجربة إنسانية عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان. من خلال عنوانها الذي يجمع بين القوة والهشاشة، إلى صورها الشعرية التي تمزج بين الواقعي والمتخيل، واللغة التي تتسم بالرقة والرمزية، ينجح الشاعر في بناء عالم داخلي مليء بالحنين والألم. إن التمزق بين نبضين، والتشبيه بالشرفة المهجورة المعلقة على خاصرة الريح، كلها تعبيرات فنية تلامس جوهر الوجود الإنساني في لحظات ضعفه وشوقه. وعلى الرغم من الالتباس حول هوية الشاعر، فإن القصيدة تقف بذاتها كعمل فني يستحق التأمل، ويثبت أن الشعر يظل مرآة تعكس تعقيدات الروح البشرية، وقدرتها على تحويل الألم إلى جمال فني مؤثر.

(النص)
 
أسوار الحنين..  

يرتفعُ حائطُ الغيث
كأنَّهُ سرابٌ
يُمسكُ بالهواء
أمدُّ يَدَيَّ في ليلٍ يتوجَّس
فتسقطُ نجمةٌ على كتفي
وتهمسُ الظلالُ باسمكِ..
هناك
خلفَ ارتعاشِ الضوء
يتدلّى وجهُكِ من ذاكرةٍ غائمة
يقطرُ من عينيهِ مطرٌ قديم
وأنا أتهدَّمُ بين نبضي ونبضكِ
مثلَ شرفةٍ أكلها الصمتُ 
وظلّتْ معلّقةً على خاصرةِ الريح..!!