كنوز نت - بقلم الفنان والكاتب : سليم السعدي


القدس… عروس مهرها النفوس والطائفة الظاهرة وعد السماء
بقلم الفنان والكاتب : سليم السعدي

القدس ليست مجرد مدينة من حجارة وأسوار، ولا مجرد عاصمة أرض محتلة، بل هي قلب التاريخ النابض، وعروس الزمان التي تتطلع إليها عيون المؤمنين، وتشد إليها قلوب الأحرار من مشرق الأرض ومغربها. هي الأرض التي اجتمعت فيها رسالات السماء، مهبط الوحي، وموضع معراج النبي ﷺ، وشاهدة على صراع أزلي بين الحق والباطل.

ومنذ سبعة عقود ونصف، تعيش القدس تحت وطأة الاحتلال، بين محاولات التهويد والاقتلاع، وبين مقاومة شعبها الذي يرى في كل حجر فيها أمانة مقدسة لا تقبل المساومة. ورغم الظلم والخذلان، تبقى القدس واقفة، شامخة، كالعروس التي لا يُنال رضاها إلا بالفداء، ولا يُكتب عقدها إلا بدماء الأحرار وصمود الصادقين. فمهرها النفوس، وثمن حريتها أرواحٌ تُفتدى في سبيلها.

وفي هذا السياق، يتردد في وجدان الأمة حديث رسول الله ﷺ الذي قال فيه:
"لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك."

هذا الحديث الشريف لم يكن مجرد نبوءة غيبية، بل هو وعد سماوي بأن الحق لن يزول، وأنه ستبقى هناك طائفة صادقة، تحمل لواء الدين والأرض، تقف على ثغور الحق، لا تضعف أمام الخذلان، ولا تهتز أمام كثرة الأعداء. ويكفي النظر إلى أرض فلسطين اليوم، لنرى بوضوح ملامح تلك الطائفة: شعب محاصر، لكنه ثابت، يقاوم بوسائل متواضعة أمام قوة عاتية، لكنه لا يستسلم، لا يساوم، ولا ينكسر.


القدس اليوم تواجه خطرًا وجوديًا، ليس فقط من خلال سياسات الاستيطان والتهويد، بل من خلال مخطط يهدف إلى تغيير معالمها وهويتها بالكامل، وتحويلها إلى عاصمة مطلقة لكيان غاصب، يُراد له أن يمحو كل أثر عربي وإسلامي فيها. تصريحات قادة الاحتلال الأخيرة، بأن "فلسطين للصهاينة وحدهم"، ليست مجرد كلمات عابرة، بل إعلان صريح عن بداية مرحلة جديدة قد تكون مقدمة لنكبة أخرى، أشد قسوة من سابقتها.

لكن، كما علّمنا التاريخ، فإن الظلم مهما طال، لا يدوم. فالأمم التي ظنت نفسها خالدة، وتجاوزت حدود الغطرسة، انهارت في لحظة حين بلغت ذروة طغيانها. والكيان الصهيوني، رغم ما يملكه من قوة ودعم دولي، يعيش منذ تأسيسه في حالة استنفار دائم، يخشى انتفاضة هنا، وعملية مقاومة هناك، ويخشى قبل ذلك من انهيار داخلي نابع من صراع الهوية والخوف من المستقبل.

إن القدس اليوم ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل امتحان للأمة كلها. فهي البوصلة التي تحدد موقع كل شعب وكل حاكم وكل جماعة: هل يقفون مع الحق والعدل والحرية، أم يقبلون أن يكونوا شهود زور على اغتصاب تاريخ وأرض وشعب؟ وهي أيضًا امتحان للعالم الحر، الذي يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان بينما يغض الطرف عن جريمة متواصلة منذ أكثر من سبعين عامًا.

ولذلك، فإن استعادة القدس ليست مجرد قضية سياسية أو عسكرية، بل هي قضية وعي وصمود وإرادة. فكما أن مهر العروس النفوس، فإن ثمن الحرية لا يُدفع إلا بالتضحيات. هذا لا يعني أن الطريق مفروش بالدماء وحدها، بل يعني أن أي حل لا يمر عبر صمود الشعوب وإرادتها الحرة، سيكون وهماً سرعان ما ينهار.

والطائفة الظاهرة التي بشّر بها رسول الله ﷺ ليست جماعة محدودة أو تنظيمًا بعينه، بل هي كل من يرفض الاستسلام، ويصطف في صف الحق مهما قلّ عدده وضعف سلاحه. هي طائفة تتجدد مع كل جيل، يخرج منها شباب وأبطال يرفعون راية الأرض والكرامة، ويثبتون أن القدس ليست للبيع، وأن دماء الشهداء لن تُهدر.

لكن، أمام هذا المشهد، تبقى هناك مخاوف حقيقية من أن يقود صمت العالم، وانقسام العرب، وتواطؤ بعض القوى، إلى فرض نكبة جديدة على شعب فلسطين، قد تشمل تهجيرًا أوسع، وحروبًا أكثر دموية. هذه النكبة، إن وقعت، لن تكون مقتصرة على الفلسطينيين، بل قد تشعل حربًا تلتهم المنطقة بأسرها، وقد تكون القاضية على مفتعليها أنفسهم. فالتاريخ علّمنا أن من يشعل النار في بيت جاره، قد يحترق بيته قبل غيره.

إن القدس تنادي أبناءها وأحرار العالم: كونوا مهرها، وكونوا الطائفة التي وعد بها رسول الله، تلك الطائفة التي لا تساوم على الحق، ولا تفرّط في الأرض، ولا تخاف في الله لومة لائم. فكل حجر في القدس يشهد، وكل دمعة تسقط على أبوابها تصرخ، بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن عروس الأرض لن يكتب عقدها إلا بأرواح صادقة تقف في وجه الطغيان حتى يُكتب النصر.