
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
"هذا بيتنا يا كريم": الشجرة في ذاكرة كريم شدّاد
بقلم: رانية مرجية
لم تكن "الشجرة" قرية عادية على خارطة فلسطين، بل كانت نبضًا حيًّا يروي حكاية الوطن بكل ما فيها من حياة، وكرامة، وجراح. قرية أنجبت الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود، والكاريكاتوري الثائر ناجي العلي، وأبقت نبضها حيًا في قلب ابنها كريم شدّاد، الذي حملها في ذاكرته كما تُحمل القصيدة في القلب، أو الطفل في حضن أمه.
في مقاله المؤلم، لا يكتب كريم شدّاد عن قريته المهجّرة فحسب، بل يرسم وجع وطن، ويُخلّد لحظة لقاء استثنائية بين رجل اقتلع من جذوره، وابنه الذي شهد انهياره الصامت أمام أطلال منزل كان يومًا يعجّ بالدفء والناس والصوت.
كان كريم في الحادية والعشرين من عمره، شابًا يعمل في بنك، حين اصطحبه والده، هلال إبراهيم شدّاد، في زيارة إلى قريتهم المهجّرة الشجرة. لم تكن الزيارة عادية. فقد توقّف الأب، المعروف بصلابته وحدة طباعه، عند زاوية من بقايا بيتهم المدمر، حيث لم يتبقَ سوى جدار واحد وحفرة خضراء فوقها عشب، كانت يومًا بئر الماء. هناك، أمام ذاكرة الطفولة، انهمرت دموع الأب... بصمت.
"هذا بيتنا يا كريم" – قالها مختنقًا، بصوت محمّل بسبعين عامًا من القهر، والحب، والخذلان.
وفي تلك اللحظة، سكت كل شيء. لم يكن في المكان سوى حفيف الشجر وزقزقة العصافير، وكان المشهد أكبر من أن يحتمله كريم، الذي لم يرَ والده ضعيفًا من قبل. لكنه هنا، لم يكن ضعيفًا، بل كان إنسانًا عائدًا إلى رحم الأرض.
لم يتبادلا الكلام في الطريق إلى الناصرة. كان الصمت أبلغ.
ولولا حبّ الأب العميق للناصرة وأهلها، لربما مات قهرًا على الشجرة، كما مات مئات غيره من شيوخ فلسطين المهجرين.
الشجرة لم تكن مجرد بقعة على سفح تلّ بين طبريا والناصرة، بل كانت حياةً متكاملة.
بئر، مسجد، كنيسة، مدرسة، مجلس شيوخ، وناس طيّبون. من هناك خرجت شخصيات فلسطينية عريقة، وسُجّلت أسماؤهم في كتاب "قرية الشجرة الزاهرة" للباحث فادي سلايمة.
لكنها في أيار 1948 سقطت.
احترقت بيوتها، شُرّد أهلها البالغ عددهم نحو 893 نسمة، وتم مسحها عن الوجود كي يُقام على أنقاضها ما يسمى بمستعمرة "إيلانيا"، حيث استقر لاحقًا دافيد بن غوريون، كأنهم أرادوا استبدال جذور القرية بجذور الغريب.
لكن كيف يمكن أن تُمحى قريةٌ تسكن القلب؟ كيف تموت إذا ظل أبناؤها يقولون: "هذا بيتنا"؟
كريم شدّاد لم ينسَ.
ظل يزور الشجرة بين الحين والآخر، يرافق الزوار، ويردّد العبارة التي قالها والده، بنفس النبرة، بنفس الإيمان، بنفس الوجع:
"هذا بيتنا، هذه نبعتنا، وهذا شجرنا المثمر."
إن شهادة كريم شدّاد ليست فقط توثيقًا لحكاية فردية، بل هي وثيقة وطنية-إنسانية، تعيدنا إلى جوهر النكبة لا من خلال الوثائق والأرقام، بل من خلال القلب. هي تذكرة بأن فلسطين ليست جغرافيا فقط، بل ذاكرة، وحنين، ودمعة على حجر.
وإننا حين نقرأ مقاله، نشعر أننا نقف إلى جواره في تلك اللحظة، نسمع الصمت، نشمّ تراب البئر، ونبكي مع الأب، ومع الابن، على ما سُرق منا، وما لن يُنسى.
20/07/2025 11:42 am 47