كنوز نت - بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.


الوعي المديون: حين يسير التخلف في اتجاه الزمن المعاكس:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
في زمنٍ يزداد فيه الإعجاب الأجوف بسرعة التكنولوجيا وسطحية المعارف، يخيّل للوهلة الأولى أن التقدّم مسألة وقت، وأن كل تأخّر ليس إلا فاصلاً زمنياً قابلاً للتجاوز ما دامت عقارب الساعة تتقدّم إلى الأمام. غير أنّ هذه النظرة خطيرة في ما تغفله لا في ما تقوله، إذ تُهمل الحقيقة الجوهرية: الزمن لا يصنع التقدّم، بل الوعي هو الذي يفكّ مديونيته بالمعرفة أو يراكم فوقها فوائد الجهل.
المتخلف الآن، إذا لم يستيقظ إلى عبء هذه المديونية الكامنة في رأسه، سيغدو في الغد أشدّ تخلفاً، لا لأنّ الزمن يتقدّم عليه، بل لأنه يسير في اتجاهٍ معكوس، تماماً كما لو أنّ وعيه يقيس الساعة على عقارب مضادة للزمن. فالساعة ليست دائماً رمزاً للتقدّم؛ في بعض الثقافات هي رمزية للدوامة أو الدوران العبثي أو حتى الانحدار المقنّع.
يقول بول فاليري: "المستقبل ليس ما سيحدث، بل ما سنفعله." وهذه المقولة الحادة تفصل تماماً بين الزمن كحركة فيزيائية، والزمن كمسؤولية فكرية. فليس كلّ من عاش في عصر التكنولوجيا إنساناً معاصراً، وليس كلّ من حمل هاتفاً ذكيّاً قد تجاوز وعي القرون الوسطى.
إنّ التخلف، كما يشير المفكر مالك بن نبي، ليس حالة مادية بحتة، بل هو قابلية داخلية للركود، وانكفاء حضاري على الذات الكسولة. وبهذا المعنى، فإنّ مَن يتأخر عن اللحظة التاريخية بوعيه، لا يكفيه أن يستقلّ قطار التقدّم بعد فواته، لأنه لا يرى المحطة أصلاً. يعيش خارج الزمن لا لأنه متأخر، بل لأنه لا يعي أنه متأخر!
-- مديونية الوعي: عندما يتحوّل الجهل إلى دين يتراكم.

إننا نعيش اليوم في مجتمعات تعاني من تراكمات معرفية لم تُسدَّد، أي أن ما فات من وعي لم يُستدرك بعد. وكما في الاقتصاد، فإن الدين المعرفي تتراكم عليه فوائد، لا على شكل أرباح، بل على هيئة كوارث فكرية: عجز عن الفهم، غياب للمنهج، قوالب عقيمة في التفكير، وتكرار قاتل للمقولات البالية التي يُعاد تدويرها كأنها فتح جديد.
وكما أن تأجيل تسديد الديون المالية يقود إلى الإفلاس، فإن تأجيل النهوض بوعي الإنسان يقود إلى الإفلاس الحضاري. إن اللحظة التي لا تُنتج معرفة هي لحظة تفاقم للتخلف، حتى وإن بدا ظاهرها مشغولًا بالحداثة أو المظاهر التقنية.
ولذلك، فإن المتخلف الذي لا يعي مديونيته، ولا يسارع إلى سدادها بإعادة بناء فكره، وتفكيك أوهامه، ومواجهة واقعه بعقل نقدي، ليس فقط متأخرًا عن غيره، بل هو متقهقرٌ داخليًا، يسير في زمن داخلي معاكس..
-- عقارب الساعة لا تكفي.
المجتمعات التي تقيس تطورها فقط بما تُنجزه عقارب الساعة، تُغفل البوصلة الحقيقية: اتجاه هذه العقارب في وعي الإنسان. هناك من يسير الزمن في داخله إلى الوراء، فيُعيد إنتاج خرافات وأوهام، ويعيد بثّ فتاوى موتورة، وخطابات جاهزة تُنتج الماضي وتستنسخه دون وعي.
كما أن هناك من يمضي إلى الأمام شكليًا – بلباس حديث، وأجهزة حديثة – لكنه يحمل بداخله زمنًا ميتًا، ومفاهيم مهترئة، وأفكارًا لا تواكب حركة التاريخ بل تتنكّر لها.
إن العقارب التي تسير إلى الوراء ليست خرافة. هي موجودة في كل عقل أغلق نوافذه على الذات واكتفى بإعادة اجترار ما سقط من فكرٍ مهزوم أو خطابٍ سلطوي مكرور.
_ خاتمة: الثورة على الزمن المعكوس.
إن المطلوب ليس فقط "ملاحقة العصر"، بل تحرير الزمن الداخلي من ركام التخلف الموروث، وسداد الدين الفكري المتراكم عبر أجيال من الكسل العقلي والتسليم الجاهز. والتقدّم الحقيقي لا يكون بالمراكمة الكمية فحسب، بل بأنسنة الزمن، أي ربطه بفعل الإنسان ووعيه وحريته، لا بعقارب الساعة وحدها.
ولذلك، فإن وعي التخلف هو بداية التقدّم، أما التمادي فيه دون اعتراف، فهو بناء لانهيارٍ مقنّع. الزمن لا ينتظر أحداً، لكن الزمن لا يكفي وحده ليصنع أحداً.