.png)
كنوز نت - صبحة بغورة
حياة قاصدي تكتب : ذاكرة الحرب
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ "
(الآية 13 من سورة الحجرات)
يوجّه النداء الإلهي خطابه إلى الإنسانية جمعاء، دون أن يستثني قبيلة أو أمة، إذ يتساوى أمامه جميع البشر. ويُعيد تذكيرهم بأنهم خُلقوا من ذكرٍ وأنثى، وهي القاعدة التي أقام بها ميزان العدل بين الناس، فكان ذلك ميثاقًا وطيدًا في فلسفة الوجود، التي تظل حقيقة مطلقة لا نقاش فيها.
البشر هم خليقة الله، ويُبيّن خطابه أنهم يخضعون لناموسه المنتظم منذ بداية الخلق. ومن هذا الخلق، الذي يتطوّر من الصيغة الفردية إلى النمط الجماعي، تُنبّهنا الآية الكريمة إلى أن من الذكر والأنثى وُلد عالم واسع، خلدت أركانه تجمعات بشرية صاغت قوالب متعددة ومختلفة، فرضها الاختلاف العرقي والديني والحضاري.
تختلف هذه التجمعات البشرية في منظومتها الفكرية والعقائدية، ومن هذا الاختلاف، صار الانتماء إلى الجماعة ضرورة، رسمت عبر القرون وجه القبيلة ثم الدولة.
ومن هذا المنطلق، تحددت صفات كل تجمع بشري وفق معاييره الخاصة، ووُضعت الحدود التي رسمتها الثقافة والعرق والدين. فانتقلت الحدود من معيار معنوي أسسته مراحل وبُنى تاريخية، إلى منطق جغرافي وضع هندسة تشكيل القبائل والأمم والدول، لتنتقل البشرية إلى تحقيق ذاتها الجماعية في نسيج يُمثلها دون غيرها.
أصبح العالم كتلًا تتصارع لتحقيق ذاتها على حساب غيرها، ونتج عن ذلك صراع المصالح، وطغيان الفكر الاستحواذي، والسعي وراء السيطرة. فوجد الإنسان نفسه في النهاية صانع حفرة سقوط غيره، كضرورة حتمية لنهضته هو.
لقد جعل تشكُّل القبائل والدول تاريخ الإنسانية زاخراً بالحروب والصراعات، التي تملأ الصفحات، ولا يخلو أي قرن من عبثها وأضرارها الجسيمة.
تحمل الآية الكريمة، في مفهومها الفلسفي، دلالات عميقة تدعو إلى التكامل، وبناء علاقات تتجه نحو الشمولية والتلاحم. فالخطاب الإلهي يُنبّه الإنسان إلى أن الاختلاف العرقي والثقافي ليس سببًا لاتّباع منهج الصراعات، بل هو دعوة لبناء جسور التعارف والتبادل المعرفي.
لكن التاريخ يُثبت أن الإنسان يؤمن بمنطق الأنانية، ويُفرط في تبني هذا الشعور المسيطر على وعيه. وقد رأينا أن القبيلة كانت مصدر آلاف المآسي عبر التاريخ، من بينها مأساة داحس والغبراء التي دامت أكثر من أربعين عامًا، وحروب الأوس والخزرج، التي تُعد دليلاً صارخًا على تغلّب منطق الجهل والتعصّب، وحبّ السيطرة، والتنافس من أجل الزعامة.
وعندما ننتقل من القبيلة إلى التجمعات البشرية الكبرى، التي أسست إمبراطوريات عظيمة في التاريخ، مثل الروم والفرس، نُعيد قراءة تاريخ حافل بحروب متعددة، أهمها الحروب بين روما وفارس، التي استمرت قرونًا، وكان سببها التوسّع والرغبة في النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. وقد نتج عنها تكتلات إقليمية فرضتها القوة، كـالمناذرة والغساسنة، الذين لعبوا أدوارًا رمزية في التاريخ من حيث الدوافع والنتائج.
إن الحروب القديمة بين الفرس والروم شكّلت منعطفًا مهمًا في مجرى التاريخ، وأسست فلسفة تقوم عليها الدول، وتُبنى عليها طبيعة العلاقات التي تتحكم فيها المصلحة العليا لدولٍ على حساب أخرى، تُرفع فيها شعارات الوطنية والحضارة والدفاع عن النفس، لكن الحقيقة في نهاية المطاف ليست سوى رغبة في إلغاء الآخر.
تنهار القيم السامية، ويُلغي الإنسان قيم الوجود الثابتة، بسبب أفكار تتغذى على التعطّش للمال، والتوسع الجغرافي، والحقد على الآخر. فكان الاستيلاء على المدن الخصبة، وحرق العواصم الجميلة، حلم الإمبراطوريات القديمة. ولا شيء تغيّر… سوى الأسماء والأبواق. لا يزال هذا الحلم قائمًا في العقول المجنونة التي تشتهي لعبة السيطرة.
فبعد حرق روما، من دفع الثمن؟ ومن استفاد من الجريمة؟
تُنتج الحروب دمارًا يبيد شعوبًا في سبيل حياة أفضل لشعوب أخرى. يموت الأطفال، وتُنتهك حقوق المدنيين، ويُضرب استقرار مناطق واسعة، ويعمّ الخراب، لكنها في النهاية تُعيد للمنتصر ترتيب المدينة، والسطو على خيراتها، والتربع على عرشٍ واسع. فيعدّ الغنائم، ويهب الصفقات، ثم يلتفت إلى الذين وقفوا بجانبه في حربه، ليُعيد النظر في تفاصيل حماقاتهم.
فهل يمكننا أن نتنبأ بمن سيمتلك المقدرة على النصر؟
فللميزان طرفان لا ثالث لهما:
طرف أخلاقي، وآخر ميكيافيلي بارع في وضع الكفّة المقابلة في حالة الانحدار.
26/06/2025 11:10 pm 49