
كنوز نت - بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين.
الشعر والتصور الميتافيزيقي: من يقين النسق إلى رؤيا الكينونة:
بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين.
إنَّ التأمل الفلسفي في الشعر لا يستقيم دون مساءلة الإطار المفهومي الذي نُدرك من خلاله كلاً من الشعر والفكر، أو بين ما يمكن تسميته بـ"الاستطيقا الشعرية" و"التصور الميتافيزيقي". فبينما ينزع التصور الميتافيزيقي إلى التأسيس لأنساق عقلية مغلقة، تتماهى مع قيم اليقين والثبات والدوغمائية، يظلّ الشعر انكشافاً متجدّداً لما لا يُقال، ولا يُحدّ، ولا يُغلق؛ إنه انفتاح دائم على "الوجود الكلي"، لا بوصفه موضوعاً للفكر، بل بوصفه معيشاً جمالياً، وإشراقاً حسّياً–كينونياً يتجاوز ميتافيزيقا المطلقات.
أولاً: التصور الميتافيزيقي... سلطة النسق وتقديس اليقين
تقوم الميتافيزيقا، بحسب تراثها الكلاسيكي، على فرض نسق فلسفيّ يقوم بوظيفة "التسقيف المعرفي" للعالم، حيث تُؤسَّس حقائق نهائية، وتُبنى مقولات يقينية حول الموجود والوجود، فتُختزل الكينونة ضمن مفاهيم مثل الجوهر، الغاية، الحقيقة، الكمال، العقل. بهذا المعنى، تسهم الميتافيزيقا في تكريس سلطة الدوغمائية، التي تنزع إلى إقصاء كل ما يتفلت من القوالب العقلية المتعارف عليها، وتفرض نوعاً من الطمأنينة العقلية الزائفة في مواجهة قلق السؤال، وغموض التجربة، وانفلات الشعور.
ومن هنا، فإن علاقة الميتافيزيقا بالإبستمولوجيا ليست علاقة حياد، بل هي علاقة تغلغل واستبطان، إذ تستند المعرفة الميتافيزيقية إلى تصوّر يُعلي من شأن اليقين بوصفه قيمة، ويطمح إلى التحكم المعرفي، والسيطرة التأويلية على الواقع. وهذا التصور المهيمن يُقصي، من حيث الجوهر، كلّ ما هو إبداعيّ، احتماليّ، شعريّ، كونيّ.
ثانياً: الشعر بما هو نداءٌ كينونيّ
في مقابل هذا التصور النسقي المغلق، تأتي الاستطيقا الشعرية بوصفها خطاباً جمالياً منفتحاً على الوجود في كثافته وغموضه وبهائه. إن الشعر، في جوهره، لا يدّعي السيطرة ولا التفسير، بل يقف على تخوم الوجود، يعاين تجلّياته، يصغي إلى إشاراته، يتورّط في مسالكه الخفية، ويتركها تتكلم بلغة الإيحاء والانزياح.
ولعلّ ما يميز الشعر، على نحو مخصوص، أنه لا يُدرَك من خارج كينونة المتلقي أو الشاعر، بل يتبدّى بوصفه انكشافاً لما هو مستتر في العالم، وانخراطاً في تجربة الإدهاش والاختلاف. فالشعر لا يصف العالم، بل يُقيم فيه، ولا يشرح الكينونة، بل ينتمي إليها، باعتباره جسداً جمالياً يتشكل عبر اللغة والصورة والإيقاع، ويتفجّر في لحظة رؤيوية تهزّ الذات وتوقظ الحسّ الكوني لديها.
ثالثاً: الجمال بوصفه توليداً للفوارق
في التصور الميتافيزيقي، يُنزّل الجمال إلى مرتبة عرضية، أو يُفسَّر ضمن مقولات الانسجام والتناسق والغائية. أما في الشعر، فالجمال هو فعل وجوديّ يتولّد من الاختلاف لا من التطابق، ومن الانزياح لا من الثبات. إنَّ كينونة الشعر هي ذاتٌ تُولِّد الفوارق، وتحتضن التوتر، وتنتشي باللعب المجازيّ والرمزيّ، حيث اللغة تُفكِّك المألوف، وتعيد صياغة العالم من جديد.
هنا، يصبح الانزياح الشعريّ فعلَ إرادة جمالية جارفة، تسعى إلى هدم البناء الواقعيّ القائم، أو على الأقل خلخلته، لتفتح في الجدار صدعاً، تتسرّب منه إشراقات الكينونة الأصلية. فـ"القصيدة" ليست فقط نصّاً، بل هي جسدٌ كينونيّ يكشف عن نفسه من خلال التجربة الجمالية، ويقودنا إلى تخوم لم نختبرها من قبل.
رابعاً: من سلطة المعنى إلى انكشاف الرؤيا
إن الشعر لا يقدّم "معنىً" بمفهومه الميتافيزيقي–الدلالي، بل هو إشراق رؤيويّ، يتجلّى فيه الحضور بدلاً من المفهوم، والإيماءة بدلاً من الحدّ. القصيدة لا تعطي أجوبة، ولا تقرر معرفة، بل تنشّط الحضور الكينوني للذات والعالم معاً، وتعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والوجود، ليس عبر الوسيط العقليّ، بل عبر الوسيط الحسيّ–الجمالي، الذي هو الشعر.
يقول هايدغر، في موضع قريب من هذا التأويل:
"إنّ الشعر يقيم في جوار الحقيقة، ويؤسِّس الكينونة من حيث هي انكشاف لما لم يكن ظاهراً."
وهاهنا يتجلّى الشعر بوصفه خطاباً ضدّ السيطرة، ضدّ الامتلاك، ضدّ الاكتمال، خطاباً يخلخل مفهوم الحقيقة المغلقة، ويعيدنا إلى أفقٍ جماليّ مفتوح، نلتقي فيه بذاتنا في حالتها الأكثر صدقاً، أي حين تتجرّد من سلطة التصنيف والتحكم.
خامساً: القصيدة كجسد كينونيّ
القصيدة، بهذا المعنى، ليست نصّاً لغويّاً يُقرأ، بل هي حدثٌ كينونيّ يُعاش، انفعالٌ جماليّ يُولِّد الرؤيا، حضورٌ حسّيّ يعرّي الوجود من سطحه اللحائيّ ليكشف عمقه الباطني. وهنا نجد الشعر وقد تجاوز ميتافيزيقا "المعنى" إلى ميتافيزيقا "الانكشاف"، وتحول إلى شكل من أشكال الإقامة الجمالية في الوجود.
فالشعر، في أعلى درجاته، لا "يوصف" بل "يُنجَز"، لا "يشرح" بل "ينبثق"، ولا "يحاكي" بل "يؤسّس"… إنه رؤيا لا تحكمها قواعد المنطق، بل قوانين الحضور والانخطاف، وهو ما يجعل من القصيدة جسداً يعود دوماً إلى كينونته المتولّدة، ويتجدّد من داخله، مثل كينونة لا تكفّ عن التشكل.
خاتمة: نحو رؤيا شعرية للعالم
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إنّ التصور الميتافيزيقي، بما هو منظومة مغلقة تستبطن نزعةً إلى التحكم المعرفي، يتناقض جوهرياً مع الاستطيقا الشعرية التي تؤمن بالانفتاح، والاختلاف، والانزياح، والانكشاف. فالميتافيزيقا تسعى إلى القبض على المعنى، والشعر يُفلت من المعنى ليكون جمالاً متحوّلاً، ووجوداً في حالة تداعٍ لا نهائي.
ولذا، فإن الشاعر، لا الفيلسوف، هو من يذكّرنا بضرورة التوقّف، والتأمل، والإنصات إلى همس الوجود، لا بغية تفسيره، بل بغية الحضور فيه، والامتنان لجماله الخفيّ، ذلك الجمال الذي لا يظهر إلا حين يتلاشى البناء المألوف، ويُفسَح المجال لرؤيا كينونية تهبنا دهشة البدء الأول.
26/06/2025 02:07 pm 115