كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


“أرجوحة من رماد”: الطفلة التي كبرت قبل أوانها
قراءة في نصّ بسمة الصباح
بقلم: رانية مرجية


في نصّها القصير والمكثف “أرجوحة من رماد”, ترسم الكاتبة بسمة الصباح لوحةً سريالية تتماوج بين الحلم والكوابيس، بين الطفولة وندوب الحرب، بين هشاشة الحياة وقسوة الذاكرة. هي قصة قصيرة في ظاهرها، لكنها رواية كاملة مختزلة في مشهدٍ واحدٍ، مشهد الطفلة ميسون التي تتأرجح على أرجوحةٍ من رماد، في فناء بلا جدران، تحت قمرٍ مشروخ، وبين أشياء الحياة التي هجرتها الحياة.

■ ميسون… مرآة الطفولة المحطّمة

ميسون ليست مجرد طفلة، بل تجسيد لبراءةٍ مُحاصَرة، طُعنت بخناجر الغياب. تتأرجح على حبلٍ مهترئ، يتدلّى من غصن زيتونة تشبه أمها، فتتداخل رمزية الشجرة – رمز الأرض والحنان والتجذّر – مع رمزية الأم التي كانت تغني في وجه الموت.
هكذا تتحوّل الأرجوحة من أداة لعب إلى أداة مقاومة، ومن فسحة فرح إلى عتبة رماد. فالطفلة تتعلّق بالحياة لا لتلعب، بل لتتذكّر من كانت، ومن بقي، ومن رحل دون وداع.

■ الأرجوحة كعتبة وجودية

تتحرك الأرجوحة في القصة، لا ارتفاعاً عمودياً، بل تذبذباً وجودياً بين “شهيق الأمل” و”زفير الخراب”. هكذا تصير الأرجوحة فضاءً فلسفياً، تتحرك فيه الذات الطفولية بين الحياة والموت، بين الرجاء واليأس، بين الحضور والغياب.
ولا ننسى أن “الزيتونة” في هذا السياق، ليست فقط شجرة سلام أو مأوى عتيق، بل أيضاً شاهد على الحروب، ومرآة لزمنٍ مشطورٍ لا يعيد ما سُلب.

■ دفتر الأحلام المحترق

العنصر الذي يُضفي على النصّ شعريته الحارقة هو ذلك “الدفتر بأطراف محترقة”، الذي تنقش فيه ميسون أحلامها بعصافير من دخان، وتلونها بلعاب الأمنيات. هو دفتر يشبه كتاب القدر، كل صفحة فيه جرح، وكل جملة سطرٌ من مرثية غير مكتملة.
ميسون لا تكتب للمستقبل، بل تكتب لتبقى، لتقاوم النسيان، لتُبقي على صوت أبيها الغائب حيّاً، وعلى ظلّ الأمّ الهامس في الفناء الخالي.


■ الدمى المبتورة والبيت الغائب

الركن المليء بالحكايات القديمة: قِدر الأمّ، الدمية مبتورة الذراع، الباب بلا منزل… كلّها ليست ديكورات، بل علامات دلالية تُكمل مشهد الانهيار.
الباب ينتظر العائدين الذين لا يعودون أبداً – جملة تشبه تماماً ذاكرة شعوب بأكملها تنتظر المستحيل، تَطرُقُ بوابات لا تفتح، وتُحضِّر المائدة للغائبين، تماماً كما كانت تفعل جدّاتنا.

■ عتبة العتمة… حين يغيب القمر

يصل النصّ ذروته الرمزية حين تنظر ميسون إلى السماء فلا تجد القمر، بل “شقاً في العتمة يشبه عيناً تُراقب بصمت ولا تدمع”.
القمر هنا ليس جسماً فلكياً، بل رمزٌ لكل ما فقد بريقه: الوطن، الأمان، الحلم، الأب. أن ينشطر القمر هو أن تنكسر صورة الله في عين طفلة، أن تفقد السماء تعاطفها، وأن يتحوّل الضوء إلى رقابة خرساء.

■ ختام… لا يشبه النهاية

تنتهي القصة بجملة تُلخّص وجعها كلّه:

“وفي تلكَ الهُوَّةِ المعلّقة، بين أرجوحةِ الحلمِ وسكونِ الرماد، كان هناك طفلةٌ تَكْبُرُ على مهلٍ… وتنسى معنى الأمل.”

كبر الطفلة ليس نمواً طبيعياً، بل شيخوخة مبكرة للروح. هي طفولة مُعدية، تُشبِه طفولات المخيّمات، وخرائب المدن القديمة، وساحات المدارس التي امتلأت بالحفر بدل التلاميذ.


■ في الختام

نصّ بسمة الصباح لا يكتفي بأن يصف، بل يُوجِع. هو نصّ تُكتَب على هامشه يوميات مدينةٍ بلا أعياد، وتُرسم بين سطوره لوحاتٌ لا تجفّ ألوانها من الدم والحنين.
“أرجوحة من رماد” ليس فقط عنواناً مجازياً، بل توصيف دقيق لحالة جيلٍ كامل: جيلٍ يتأرجح بين الحياة والخراب، بين أحلامٍ محترقة، وسماءٍ لا تدمع