.jpg)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
تحليل قصيدة “يوميات حرب – بلا رقم” للشاعر بنيامين حيدر
بقلم: رانية مرجية
⸻
عندما يُغنّي الرماد: قراءة في قصيدة الأمل المتوجع
ليست القصيدة التي بين أيدينا مجرّد نصّ شعري يندب الحرب، ولا هي مجرد نشيد عابر يتغنّى بالسلام. إنها يوميات مكتوبة بالحبر والدمع، من قلبٍ أنهكه القصف، لكنه ما زال يختزن الحبّ والغناء والطيران في الحلم. الشاعر بنيامين حيدر، في قصيدته “يوميات حرب – بلا رقم”، يفتح النافذة على احتمالات الرجاء، لكنه لا يغلق الباب على فداحة الألم. إنه يكتب ما يشبه “بيان نجاة” بلغة شعرية مُتشظّية ومتوثّبة في آن.
⸻
القصيدة بلا رقم… لأن الحرب بلا نهاية
أن يختار الشاعر عنوانًا كـ”يوميات حرب – بلا رقم”، فذلك ليس عبثًا بل هو إحالة مباشرة إلى واقعنا العربي والفلسطيني الذي صار فيه “عدّ” الحروب نوعًا من البلادة والاعتياد. الرقم هنا يسقط، لأن الحروب صارت تتوالد من بعضها، كأنها لا تعرف حدودًا ولا ختامًا. فالعنوان نفسه يدخلنا في المأزق الوجودي: متى تكون الحرب الأخيرة؟ وهل للحروب نهاية، أم أنها تعيش في الذاكرة والمنازل وقلوب الأطفال حتى بعد أن “تتوقّف” رسميًا؟
⸻
بين التصديق والارتجاف: هشاشة الأمل
“قيل لنا: انتهت الحرب.
، صدّقنا.”
هكذا يبدأ النص. بـ”قيل” و”صدّقنا”، جملتان متنافرتان تنفتحان على مساحة شاسعة من الشكّ. التصديق هنا ليس فعل إيمان، بل فعل رجاء، فعل ناسٍ يتمنّون أن يكون الكذب حقيقة. ورغم أنهم صدّقوا، لا يتخلّى الشاعر عن ارتجاف القلب في الختام:
“قيل لنا: انتهت الحرب،
والقلب يرتجف من جديد”.
هنا يكشف النص عن عمقه النفسي: حتى حين يُقال إن الحرب انتهت، لا تنتهي الحرب فينا. هذا هو الجرح الذي يجعل الأمل هشًّا، مثل زهرة صفراء في قبضة الربيع تنتظر المطر.
⸻
من الهاجس إلى الحلم: مسار القصيدة
القصيدة تتقدّم عبر مراحل دقيقة، تبدأ بالصدمة والابتسامة المتردّدة، ثم بالاستئناس بالعصافير، ثم باستحضار صور الحياة العادية كأنها انتصارات صغيرة. لعل أجمل ما في النص أنّه لا يحتفي بالبطولة، بل يحتفي بما نعتبره “عاديًا”:
“نفتح النوافذ،
لا لنراقب الطائرات… بل لنستقبل النسيم وأغاني الصباح.”
هذه العودة إلى التفاصيل الصغيرة: النسيم، العصافير، ضوء الشمس، زقزقة الأمل، ليست ترفًا بل مقاومة. في مجتمع اعتاد الخوف، أن تضحك يعني أن تثور.
⸻
السلام: من وهم جماعي إلى تمرين داخلي
واحدة من أجمل صور القصيدة أن السلام لا يأتي كقرار سياسي، بل كتحوّل داخلي بطيء:
“السلام كالصباح
لا يأتي دفعةً واحدة،
بل يتسلّل بخجل،
من بين الدموع اليابسة،
والقلوب التي تعلّمت كيف تنبض رغم الحصر”.
الصباح لا يقتحم، بل يتسلل، وكذلك السلام، يأتي خجولًا، ينبت بين الخراب، بين الأرواح المنهكة. والشاعر هنا لا يتوسّل سلامًا خارجيًا، بل يدعو إلى سلام يبدأ من الداخل، من القلوب التي “تعلّمت كيف تنبض رغم الحصر”، رغم الغرف المغلقة، والخوف، والعتمة.
⸻
استعادة الفعل الإنساني: نحن نعرف كيف نزرع
حين يقول الشاعر:
“وسنقول للغد:
تعال كما تشاء،
فنحن الآن نعرف كيف نحيا،
حتى بعد كلّ موت.”
فهو لا يتحدث عن انتصارٍ عسكري أو تسوية دولية، بل عن أعظم انتصار: أن تحيا بعد الموت. أن تعلّم أبناءك أن الغيم لا يدوم، وأن الأغنية ستعود. إنه إصرار على الفعل الإنساني في مواجهة الخراب. فالقصيدة تصنع معادلًا شعريًا لفعل “الزرع”، كأن الشعر نفسه يصبح بذرة في تربة متعبة.
⸻
قصيدة في انتظار الصلاة
النهاية في هذا النصّ ليست نهاية، بل صلاة. صوت داخلي يرفع دعاءً خافتًا:
“يا رب، اجعلها الأخيرة…
واجعل السلام لا يرحل.”
وفي هذا الرجاء نجد أكثر ما يميز القصيدة: أن القصيدة لا تُنهي الحرب، لكنها تفتح بابًا للسلام في النفس. والشاعر، رغم كل ما شهده، لا يكتب مرثية، بل يكتب تعويذة.
⸻
خاتمة: حين يصهر الشاعر الألم في قصيدة
بنيامين حيدر، في نصّه هذا، لا يقدّم وثيقة توثيقية ليوميات حرب، بل يقدّم وثيقة شعرية ليوميات إنسان ما زال يراهن على الضوء، رغم كل هذا السواد. إنه شاعر يعرف أنّ الكلمة قد لا توقف الحرب، لكنها قادرة على إعادة بناء الإنسان من تحت الركام. وفي زمنٍ يتكاثر فيه الموت، لا نملك سوى أن نصدّق الشعراء حين يقولون:
“نعرف أن السلام ليس حلمًا،
بل طريقٌ نسير فيه… معًا.”
بقلم: رانية مرجية
كاتبة وصحافية فلسطينية

25/06/2025 04:01 pm 247