كنوز نت - عماد خالد رحمة _ برلين


الظمأ الوجودي: عن الغربة الأنطولوجية، وانشطار الذات، وأقنعة النجاة
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
في زمنٍ يشتد فيه ضجيج العالم وتزداد فيه العزلة كثافة رغم الحشود، يبرز سؤال جوهريّ يقضّ مضجع الإنسان الحديث: ما الذي يجعلنا نشعر بالغربة ونحن في عمق الحياة؟ ما الذي يدفع كائناً واعياً، ممتلئاً بمباهج الاستهلاك ووعود الترف، إلى الإحساس بالفقر الداخلي، والعطش إلى معنى يتجاوز الواقع المرئي؟ إنّه الاغتراب الوجودي، تلك الحالة التي يُجَرَّد فيها الفرد من دفء الانتماء إلى ذاته، ويعيش لا كمن يعايش الحياة، بل كمن يراقبها من خلف زجاجٍ كثيف لا يسمح له بالتنفس.
الاغتراب الوجودي، كما تُصوّره الأدبيات الفلسفية، ليس مجرد شعورٍ بالوحدة، بل هو انقطاع الكائن عن جوهره، عن رنينه الداخلي، عن طمأنينة حضوره الذاتي في عالمٍ بات يتكلّم بلغات لا يفهمها. إنه الشرخ الخفي الذي يجعل الإنسان غريباً عن ذاته، ويحوّل وجوده إلى عبء، وسؤاله عن المعنى إلى وجع دائم لا يهدأ.
وسط هذا التيه، ينبثق مفهوم عميق ابتكره المفكر عبد الجبار الرفاعي، وهو "الظمأ الأنطولوجي"، أي ظمأ الكينونة ذاتها إلى ما يرويها، إلى أصلها، إلى معنى يتجاوز التفسير المادي المحض. إنه العطش للوجود بما هو وجود، لا بما هو استهلاك أو سلطة أو تأويل. فالمقدس، في تصور الرفاعي، ليس شكلاً دينياً فحسب، بل تعبيرٌ عن حاجة متجذّرة في الكينونة البشرية، إلى ما يسمو بها، إلى ما يعيدها إلى مركزها الوجودي.
لكن الذات لا تُغترب فقط بفعل غياب المقدس، بل أيضاً حين تُحوّل إلى موضوعٍ لنظرات الآخرين، حين تُسحب من داخلها وتُلبّس صورة خارجة عنها. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الجحيم هو الآخرون"، لا لأن الآخر شرّ، بل لأنّه، في قدرته على التشييء، يحوّلك من كائنٍ حرّ إلى تمثال. تنظر إليك العيون، فتتغير، وتتقمص الدور الذي تتوقّعه تلك العيون منك، لا ما تمليه أصالتك. هنا، تبدأ الكارثة الوجودية: أن تعيش حياتك كـ"مشهد"، تؤديه بلا أن تعي متى بدأت تمثيله، ولا كيف تتوقف.
وهنا، تلعب آلية الإسقاط، كما شرحها سيغموند فرويد، دوراً خطيراً: حين تُصبح الذات مرآةً لهواجس الآخرين، موضعاً لرغباتهم الدفينة، وأوهامهم التي لم يُفصحوا عنها. فتغدو حاملاً لصورة ليست لك، لشخصية لم تخترها، وتبدأ في تصديقها، لأنك تتوق، كما يقول لاكان، إلى أن تكون مرئياً، أن تكون محبوبا. غير أن هذا الحب مشروط بقناعٍ ترتديه، قناع لا تعرف متى لبسته، لكنه لم يعد يُخلع.
غواية الصورة أشد فتكًا من القيود الظاهرة. إنها تُخدّرك بوعد المجد، وتخدعك بأنك "النسخة المُثلى" مما يجب أن تكونه. تحوّلك إلى شخصية مرغوبة: النبي، الشاعر، الفيلسوف، المحبوب، النبيل… ولكن، ما أثمن هذا القبول إن كان ثمنه هو الأصالة؟ هنا يتقاطع الفهم النفسي مع البعد الفلسفي، حيث تُنتج الحاجة إلى الاعتراف، وفق إريك فروم، نوعاً من العبودية النفسية، يُسلّم فيها الإنسان مصيره لصورةٍ مستعارة.
يصف سورين كيركغور هذا المأزق بـ"العيش في غفلة"، أي الحياة وفق هوى الجماعة، لا وفق اختيار داخلي. أما كارل يونغ، فيشير إلى خطر "القناع "، ذلك الشكل الاجتماعي الذي نرتديه لنخفي هشاشتنا. المشكلة لا تكمن في القناع ذاته، بل في نسياننا أننا نرتديه. عندها يتحوّل القناع إلى هوية، ويُغتال العمق.

النتيجة؟ نشوء ما يمكن تسميته بـ الغربة الأنطولوجية: أن لا تعود تعرف من أنت، لأنك لم تعش يوماً ما كنته فعلًا. وهنا، تتكثف معاناة الإنسان الحديث، خصوصاً في مجتمعات تتفكك فيها الروابط الروحية، ويغيب فيها الإله بوصفه مرجعية للمعنى، ويُستبدَل بأوثان جديدة: الشهرة، المال، السلطة، التأثير.
الرفاعي يذهب بعيداً حين يشير إلى أن الإرهاب ذاته، بما هو انتحارٌ جماعي في صورة دموية، ليس سوى أحد تجليات هذا الظمأ الأنطولوجي. أولئك الذين يعيشون في وفرة مادية ويُلقون بأنفسهم في هاوية الفناء، ليسوا إلا كائنات اختنقت من فقر المعنى، وضلّت الطريق إلى المقدّس. وهذا التفسير يتجاوز المقاربات السياسية أو الاقتصادية، ليقارب الظاهرة من جذورها الوجودية.
هنا نفهم كيف أن الاغتراب الميتافيزيقي، كما يسميه الرفاعي، لا يُشفى إلا بإعادة بناء الصلة مع المطلق، أي بالله بوصفه محبة، لا سلطة؛ علاقة وجدانية، لا طقسية؛ صلة وجودية، لا معرفية فحسب. هذا ما يجعل العودة إلى الذات ممكنة، لا عبر التمركز حول الأنا، بل عبر الاندراج في نسيج أكبر من الذات، يمنحها المعنى ويعيد انسجامها مع العالم.
فالإنسان لا يحتاج فقط إلى وظيفة ولقمة وأمن، بل إلى ما يسمو على هذه الحاجات: يحتاج إلى أن يشعر بأن حياته لها معنى، وأن وجوده ليس عبثاً، وأنه، في جوهره، ليس آلة تعمل، بل كائن يبحث، يحب، يرتجف، ويصلي ولو بصمت.
في النهاية، ليس المأزق أن نعيش غرباء عن العالم، بل أن نغترب عن أنفسنا، ونفقد تلك الصلة الخفية التي تربطنا بما يجعلنا بشراً. وفي زمن الأقنعة، تصبح العودة إلى الذات مغامرة بطولية، والبحث عن الحقيقة فعل تحرّر، واستعادة الإيمان فعل مقاومة في وجه اغترابٍ شامل لا يرى فينا إلا صوراً… لا أرواحاً.