كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


القديس أنطونيوس البدواني… قلبٌ مشتعل بمحبة الله والفقراء

بقلم: رانية مرجية

في الثالث عشر من حزيران، تتوقف أرواح كثيرة عن الركض. يضع المؤمنون انشغالاتهم جانبًا، ويتفرّغون لحضورٍ من نوع مختلف. هو ليس حضورًا جسديًا، بل روح تحلّق فوق الزمن، تُنير العقول، وتربت برقة على القلوب المتعبة. إنه عيد القديس أنطونيوس البدواني، الراهب، الواعظ، الشفيع، وحبيب الفقراء.

أنطونيوس الذي ما زال، بعد ثمانية قرون، يقف كمنارة هادئة في عالم فقد الكثير من بوصلة الرحمة والحقيقة.

 من لشبونة إلى السماء

وُلد فرناندو دي بولونيس عام 1195 في لشبونة لعائلة متدينة، وبرز منذ صغره بعقله المتّقد وشغفه بالكتب المقدسة. التحق بدايةً برهبنة القديس أوغسطينوس، وهناك غاص في أعماق الكتاب المقدس، حتى صار له مع الكلمة علاقة حميمية، لا تقف عند الحروف، بل تتجاوزها إلى المعنى، إلى النور.

لكن الروح التي تسكن قلبًا مشتعلًا لا تهدأ. إذ قرأ عن استشهاد خمسة رهبان فرنسيسكان في المغرب، فاشتعلت فيه الرغبة في أن يُبشّر كما بُشّروا، ويُحِبّ كما أحبّوا. ترك كل ما لديه، والتحق برهبنة القديس فرنسيس الأسيزي، وأخذ اسمًا جديدًا: أنطونيوس. اسم جديد لحياة جديدة.

 الكلمة التي تحرق الظلام

لم يكن أنطونيوس راهبًا صامتًا، ولا لاهوتيًا في برج عاجي. بل كان كلمة حيّة. وعندما تكلّم، لم تكن اللغة مجرد وسيلة، بل صلاة. حمل البشارة بعمق متّقد، وراح يطوف المدن الإيطالية والفرنسية، يعظ في الكنائس والطرقات، يُصغي للفقراء، ويُداوي بالكلمة جراح البسطاء.

يُقال إن صوته كان يدخل القلوب قبل الآذان، وإنه حين تحدث، أنصتت حتى الأسماك، حين أعرض الناس عنه.

لكنه لم يكن يطلب المجد، ولا التصفيق، بل الحقيقة وحدها. لذلك استحق أن يُلقب بـ”معلم الكنيسة”، وأن يُعلن قداسته بعد أقل من عام على وفاته. فالنور لا يحتاج إلى كثير من الوقت ليُرى، فقط إلى أعين نقيّة قادرة على التأمل.

 شفيع الضائعين… وأبٌ لكل من أضاع نفسه


لا نلجأ إلى أنطونيوس فقط حين نُضيع مفاتيحنا أو مقتنياتنا الصغيرة، بل نلجأ إليه عندما نُضيع أنفسنا. حين نشعر بأننا تائهون في هذا العالم المتسارع، المزدحم، المليء بالأقنعة. نبحث عن حضوره، عن صلاته، عن هدوئه الذي يسبق السلام.

في قلبه، كان للفقراء مكانٌ دائم. لم يحبّهم فقط، بل رأى فيهم صورة المسيح المتألم. وعاش مثلهم، بسيطًا، فقيرًا، نقيًا، متحررًا من وهم الامتلاك، ليملأ قلبه بالحب وحده.

 إلى اليوم، لا يزال ضريحه حيًّا

في مدينة بادوفا، حيث استراح جسده المنهك من أجل السماء، لا تزال الجموع تتوافد، لا لتلمس العظام، بل لتتلمس أثر الروح. فأنطونيوس، وإن مات جسده في 13 حزيران 1231، إلا أن صوته لا يزال يُهمس في ضمائر الباحثين عن الله.

ضريحه ليس مجرد مزار، بل مكان تلتقي فيه الأرض بالسماء. وهناك، يرفع الناس صلواتهم، وينذرون قلوبهم من جديد لمغفرة غابت، أو إيمان خفت، أو رجاء كاد يضمحل.

 أنطونيوس… ما زلت بيننا

في زمن تغلب فيه المظاهر على الجوهر، والضجيج على التأمل، نحتاج إليك أكثر من أي وقت مضى.
نحتاج إلى من يُعيد ترتيب أولوياتنا،
إلى من يذكّرنا أن الكلمة تُبني لا تُهدم،
أن الفقر طهارة إذا سكنه الحب،
وأن القداسة ليست معجزة خارقة، بل حياة عادية تُعاش بأمانة استثنائية.

في عيدك، لا نأتي لنطلب… بل لنصمت.
لنُصغي إليك، كما أصغى إليك السمك،
لنعرف من جديد أن من يُحب الله حقًا، لا يضيع أبدًا.


رانية مرجية
كاتبة فلسطينية – ابنة الكنيسة الشرقية