
كنوز نت - بقلم رانية مرجية
كنيسة السماء على الأرض: زياراتي المتكررة إلى كاتدرائية السمائين والقديس نيقولاوس في شرم الشيخ
بقلم: رانية مرجية
زرْتها أكثر من ستّ مرّات، وربما سأعود إليها مرّاتٍ كثيرة أخرى، لا لأنني مولعة بالسفر إلى شرم الشيخ، بل لأنّ في قلب هذه المدينة الساحلية، وفي ظلّ جبال سيناء الخشنة، ثمّة كنيسة واحدة تنضح نعمة ودهشة، تُشبه السماء حين تهبط إلى الأرض دون ضجيج.
أكتب عن كاتدرائية السمائين والقديس نيقولاوس، تلك الجوهرة المعمارية والروحية التي زرعت نفسها هناك، وسط ضوء البحر وريح الصحراء، بهدوء يليق بالقديسين.
حين يصبح الرخام صلاة
منذ الزيارة الأولى، عرفت أنني لست في كنيسة عادية. لم يكن مجرّد مكان صلاة، بل مهبطًا للجمال المقدّس. أذكر أنني دخلت وأنا ألهث من حرارة الطريق، فاستقبلني البرد الرخامي، والنور الذي يتسلّل من القباب العالية ليرقص على وجوه المصلّين مثل قُبلة خفيّة. الكنيسة ليست كبيرة فقط، بل مترامية الروح، تمتدّ في داخلك، تفتّش عن الضوء الذي أضعته ذات شكّ.
الرسومات التي تزيّن الجدران ليست زخرفة، بل أناجيل مرسومة، تروي قصص الخلق والخلاص والموت والنهوض. لا شيء فيها جامد. حتى الأعمدة تنحني كأنها تصلّي، وكل أيقونة فيها تحمل عيونًا ترمش في قلبك، لا على الجدار.
كنيسة ناطقة بكل اللغات
في زياراتي المتكرّرة، التقيت بزوار من كل الجنسيات: روس، إيطاليين، أقباط من الصعيد، أطفالًا من سيناء، وحتّى ملحدين جاؤوا بدافع الفضول. واللافت أنّ كل هؤلاء، حين يخطون عتبة الكاتدرائية، يصمتون فجأة. كأنهم يدخلون مدرسة صمت، أو بيتًا لروحٍ أكبر منّا جميعًا. لم أشهد جدالًا واحدًا، ولا رأيت وجهًا غاضبًا. في هذه الكنيسة، الجميع يتساوون عند المذبح، حتى أولئك الذين لا يؤمنون بشيء.
صلاة لا تُكتب
في كل زيارة، كنت أبحث عن مقعد في الزاوية، بعيدًا عن الصور، عن العدسات، عن المارة. أغمض عيني وأدع صوت القُدّاس، وإن كان باللغة القبطية أو العربية، يتسرّب إليّ كدعاء أمّي حين كنت صغيرة. لم أطلب شيئًا من الرب. لم أرجُه شيئًا. فقط جلست وانتظرت أن يهدأ صخبي الداخلي. والمذهل، أنّ الكنيسة كانت تفعل ذلك دون أن تقول شيئًا. فقط بحضورها.
أسقف الحكايات
ذات مرّة، التقيت بكاهن عجوز، جلس معي بعد القداس. سألته إن كان يتعب من تكرار الصلوات. ضحك وقال: “أنا لا أكرّر، أنا أعيد تسليم الروح”. كلمته ظلّت في أذني كأيقونة. الكنيسة لم تكن فيها صور فقط، بل فيها من ينسجون الحكاية كلّ يوم من جديد. كل ركن فيها يشهد، كل شمعة تحترق من أجل من لا يعرف أن يضيء.
فسيفساء بين الجبل والبحر
شرم الشيخ، بمياهها الفيروزية وأسواقها الصاخبة، تبدو للوهلة الأولى مدينة للترفيه فقط. لكن من يزورها بعيون القلب، يكتشف أن في جوفها كنيسة واحدة تشبه نبضًا مسيحيًا خافتًا، لا يريد أن يستعرض نفسه، بل يريد أن يحتفظ بقداسته وسط ضجيج الدنيا. كاتدرائية السمائين ليست معلَمًا سياحيًا، بل ملاذًا، حجرًا مقدّسًا وسط الرمال، قنديلًا مشعًّا في بحر الضوء.
⸻
لماذا أعود؟
لا أعود إلى الكنيسة فقط لأصلّي، بل لأتذكّر من أكون. لأننا في عالم يطالبنا أن ننسى أرواحنا، أن نمشي بلا يقين، أن نعبد السوق لا المذبح. في هذه الكاتدرائية، تذكّرت أنني لست فقط كاتبة، ولا مجرد عابرة، بل أنثى تحمل في قلبها أسئلة لا يقدر العلم أن يجيبها، ولا الفلسفة أن تهدّئها.
زرْتها أكثر من ستّ مرّات، وفي كل مرة كنت أخرج منها أقلّ توتّرًا، أكثر صمتًا، وأشدّ يقينًا بأنّ في هذا العالم، لا تزال هناك أماكن تفتح أبوابها للذين سقطوا ولا يريدون أن يُدانوا، بل أن يُحتضنوا
09/06/2025 12:46 am 25