كنوز نت - بقلم الكاتب الباحث: سليم السعدي


موسى المطمور: نبيٌ بلا قبر… ونهاية بلا شهود
  • بقلم الكاتب الباحث: سليم السعدي
في سجلّ الأنبياء العظام، لا يكاد يوجد نبيٌّ تكرّر ذكره في القرآن الكريم كما تكرّر ذكر موسى عليه السلام. رجلٌ حمل على عاتقه ثورة ضد الظلم الفرعوني، وقاد أُمّةً كانت تتأرجح بين العبودية والتمرّد، وغاص في صراع روحي وأخلاقي وقانوني قلّ نظيره. ومع كل هذا المجد، يغيب تفصيلٌ واحدٌ صادم: لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف مات موسى، وأين دُفن
موسى، نبيّ الرسالة والميثاق والتشريع، يختفي من المشهد فجأة. لا آيةٌ قرآنية تصرّح بوفاته، ولا روايةٌ تحدد موضع قبره، ولا أي شاهد تاريخي صلب يُنهي حكايته التي شغلت ثلاث إمبراطوريات – مصر، وكنعان، والتيه بينهما
فكيف لنبيّ بهذه العظمة، أن لا يُعرف له ضريح؟ أن لا يُحاط قبره بالزهور والدموع؟ أن لا يروي أحدٌ مشهد وداعه، أو يُخلّد لحظة عبوره إلى الأبدية؟
هل هي المصادفة؟ أم الحكمة؟ أم المؤامرة؟
الخروج من التاريخ
القرآن يصمت عن نهاية موسى، في الوقت الذي يفصّل في موت نوح، وعيسى، وسليمان، ومحمد ﷺ. حتى النبي الذي رُفع إلى السماء (عيسى) وُثّقت معجزته. أما موسى، فكل ما نملكه روايات متفرقة من السنة، تقول إنه مات قرب الأرض المقدسة، دون أن يدخلها، ودُفن في مكانٍ لا يعلمه أحد
وهنا تتفجر الأسئلة: لماذا يُطوى ملفّ نبيٍّ بهذه الطريقة؟ لماذا لا يشهد أحدٌ جنازته؟ ولماذا يكتفي النص الديني بالإشارة إلى "الكثيب الأحمر" – إشارة بلا تحديد؟
الغضب المقدّس والخذلان المتكرر
قد يرى البعض أن السرّ يكمن في علاقة موسى بقومه. فلقد ذاق من قومه ما لم يذقه نبيٌّ من أتباعه:
•عبدوا العجل وهو غائب عنهم
•شككوا بنبوّته رغم الآيات
•قالوا له: "اذهب أنت وربك فقاتلا"
ربما كانت وفاته فصلًا أخيرًا في دراما الخذلان… وربما كانت نهايته في عزلة، بعيدًا عن القوم الذين أرهقوه
هل قُتل موسى؟
بعيدًا عن النصوص المعتمدة، يحقّ للعقل الحر أن يتساءل: 
هل من الممكن أن تكون نهاية موسى نتيجة مؤامرة؟ هل من المحتمل أن بعض قادة بني إسرائيل – ممن ضاقوا ذرعًا برسالته وشريعته – رأوا فيه حجر عثرة أمام مصالحهم، كما فعل أسلافهم بأنبياء لاحقين؟
التاريخ اليهودي نفسه لا يُنكر أن بني إسرائيل قتلوا عددًا من أنبيائهم، وفي بعض الكتب غير القانونية إشارات إلى غموض موت موسى
وإن كان هذا الاحتمال صادمًا، فإنه لا يُستبعد من أمة رفضت الدخول إلى الأرض المقدسة، وعبدت صنمًا صنعته أيديهم بعد أيام من معجزة البحر
النبي الذي أخفاه الله
لكن لعلّ في طمس قبر موسى حكمة، كما قالت بعض التفاسير:
•حتى لا يُتخذ قبره مزارًا أو وثنًا
•حتى يُبقي الله سره محفوظًا، ويظلّ موسى رمزًا لا جسدًا
•حتى لا يتحوّل مثواه إلى مركزٍ للصراعات الطائفية والسياسية
وربما، لأن نهايته كانت أكبر من أن تُروى، وأصعب من أن تُكتب. وربما… لأنها كانت خيانة

بين الصمت والوحي
السكوت أبلغ من الكلام أحيانًا. وحين يسكت القرآن عن مشهد موت موسى، فهو يترك الباب مفتوحًا للتأمل، للشك، ولليقظة
إن موت العظماء ليس مجرد لحظة بيولوجية، بل اختتام سردية، وتحول من شخص إلى فكرة
وموسى، الذي لم يُدفن في وعي البشر، ما يزال حيًّا في ضمير من يرفض الطغيان، ويهتف في وجه الفرعون: "أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم!"
من قتل موسى؟
قراءة في تمرد بني إسرائيل وتاريخ الغدر

منذ أن خرج موسى بقومه من بطش فرعون، بدأت رحلة التيه الكبرى، ليس فقط في الصحراء، بل في الوعي البشري. فهؤلاء القوم الذين اصطفاهم الله لحمل رسالة التوحيد، تمرّدوا في كل منعطف، وناقضوا كل ميثاق، وكأنهم وُلدوا ليختبروا حدود الصبر الإلهي
ولعلّ السؤال الأكبر الذي يطفو من بين سطور التوراة والقرآن والتاريخ: هل مات موسى حقاً ميتة طبيعية؟ أم أن نهاية نبيهم الأعظم كانت ثمرة خيانة من قومه؟
بني إسرائيل: جماعة بلا أصل موحد
لم يكونوا شعبًا نقيّ السلالة، بل تكوّنوا من زيجات مختلطة، من نسل مصري وكنعاني ومتداخلات أخرى. كان الاسم "بني إسرائيل" هوية دينية–سياسية أكثر منه تعريفًا عرقيًا. وهذا التنوع لم يولّد انفتاحًا، بل تفككًا وازدواجية في الولاء، انعكست في تقلباتهم الحادة بين الإيمان والكفر، بين الطاعة والغدر. لقد عرّفهم الوحي بأنهم: 
"قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ"،
"نَقَضُوا الْعُهُودَ"،
"يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ"
صفاتٌ متكررة تظهر في الكتب السماوية وفي التاريخ السياسي الحديث – من اغتيال أنبيائهم إلى قتل رئيس وزرائهم إسحق رابين بيد أحد أبنائهم، لأنه تجرأ على توقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين
التمرد المزمن
قصة موسى مع قومه لم تكن مجرد قيادة سياسية، بل صراعًا مريرًا بين مبدأ الوحي وشهوة التمرّد. عبدوا العجل بعد أيام من شق البحر. طالبوه بأن يجعل لهم "إلهاً كما لهم آلهة". اتهموه بأنه قتل أخاه، واتهموا الله نفسه بـ"الظلم" حين كتب عليهم التيه
فهل يعقل أن يسلَم موسى في النهاية من نفس القوم الذين "قالوا له: إنا لن ندخلها أبدًا"؟
هل يمكن أن يموت نبيهم دون شاهد، ولا يُعرف له قبر، مصادفة فقط؟
موسى: اختفاءٌ لا يموت
لقد كان موسى أكبر من أن يُغتال كما يُغتال الآخرون. لكن غياب أي رواية واضحة عن موته، وعدم وجود ضريح له، يفتح الباب لتأويلات كثيرة :
•هل أخفاه الله ليبقى حيًّا في الوعي المقاوم؟
•أم طُمس خبره ليخفي القوم جريمتهم؟
•أم قُتل في عزلة، كما قُتل قبله يحيى وزكريا، واغتيل بعده رابين؟
التاريخ يعيد نفسه
بني إسرائيل في النصوص وفي الواقع، هم جماعة اختبرت الميثاق وخانته، عاشوا بين الشعوب لكنهم زرعوا الفتنة، ورفعوا راية "الاصطفاء" لكنهم مارسوا الطغيان. صفاتهم لم تتغير كثيرًا، من التيه القديم إلى الاحتلال الحديث: دسائس، تحريض، صناعة أعداء داخليين، اغتيال مشاريع السلام، وتشويه كل نبي أو صاحب كلمة.
فهل كان موسى استثناءً؟
أم كان أول ضحاياهم؟