.png)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
سبتُ الأموات: عناق الأرواح في ذاكرة الأرثوذكسية
بقلم: رانية مرجية
يحلّ علينا بعد غدٍ ما يُعرف في الطقس الأرثوذكسي بـ”سبت الأموات”، ذاك اليوم الذي لا يشبه سائر الأيام، إذ يتشح بالسواد النقيّ لا حدادًا، بل احترامًا للأرواح التي سبقتنا إلى الراحة، وبالرجاء المُضيء كما الشموع في كنائسنا، أن تكون ذاكرتهم بركة وأن تُقبَل صلواتنا عنهم.
سبت الأموات هو السبت الذي يسبق عيد العنصرة في التقويم الأرثوذكسي الشرقي، ويأتي أيضًا في سبت اللعازر قبل أحد الشعانين، وفي الحالتين تتوقف الأرثوذكسية عند الموت ليس بوصفه خاتمة، بل كبوابة للفداء والقيامة. في هذا اليوم، نذهب إلى القبور لا لنرثي الغائبين، بل لنقول لهم إنهم حاضرون، وإن أرواحهم ما زالت ترافقنا في طرقات الحياة، نضيء لهم البخور ونرفع “رحمة يا ربّ”، وكأنها نشيد لا ينقطع بين من في الأرض ومن في السماء.
وأنا أستعدّ لسبت الأموات هذا العام، لا يسعني إلا أن أستحضرهم واحدًا واحدًا، أحبّتي الذين سبقوني إلى حيث النور، أرفع عن أرواحهم الصلاة من أعماق قلبي:
لأمي، تلك المرأة التي علّمتنا المحبة التي لا تعرف إلا المحبة، والتي كانت ترى في كل إنسان وجهًا للرحمة الإلهية؛
ولأبي، الذي لم يقل الكثير، لكنه علّمنا معنى الكرامة والعطاء بصمته ومواقفه، بيديه المتعبتين وصدره الواسع كسماء حزيران؛
لجدي الطيب، الحكيم الحنون، الذي كان يروي لنا حكايات المجد بصوته الأجش؛
ولجدتي التي هجّرت من اللد عام 1948، وعاشت وماتت ودُفنت في رام الله، جدتي التي حملت النكبة في تجاعيدها، لكنها لم تسمح للوجع أن يطفئ دفء قلبها. كانت تُعدّ القهوة كما يُعدّ المصلّي صلاته، وتزرع فينا الحنين كما لو كانت تزرع زيتونة.
ثمّ أصلّي لجدتي الأخرى، التي وإن لم تُهجّر، كانت منفية داخليًا بين الكتب والآيات. تلك التي حفظت القرآن عن غيب، تردده بخشوع مَن يرى في كلّ كلامٍ طريقًا إلى الله. كانت تحفظ المزامير والإنجيل كما تحفظ الفاتحة، وتعلّمتُ منها أن اللغة العربية ليست فقط وسيلة تواصل، بل وطنٌ أوسع من الخرائط، أعطتني مفاتيحها بيديها، ومنذ ذلك الحين صرت أكتب لأتذكّرها، وأحبُّ العربية لأشبهها.
ولخالي الذي استُشهد ولم أعرفه، خالي الغائب الحاضر في صور قديمة وصمتٍ عميق، خالي الذي بقي اسمه دعاءً على لسان أمي، وحكاية ناقصة على أطراف الذاكرة.
أصلّي عن عمّاتي اللواتي كنّ ملجئي في طفولتي، ضحكتهن، نصائحهن، وحتى دموعهن كانت جزءًا من تكويني، نساء من نور، حملن الذاكرة والمحبّة والدفء بصمت يشبه صلاة منتصف الليل.
كم من أمّ في الرملة أو شفاعمرو أو القدس أو يافا أو رام الله، ستذهب إلى القبر وهي تمسك بيد حفيدها، تعلّمه الصلاة على جدّ لا يعرفه، لكن روحه معلقة بأسماء العائلة؟ وكم من أرملة ستجلس بصمت قرب شاهد قبر كأنها تحادث زوجها، تهمس له بما لم تقله في حضوره، وتغفر له بصمتها الطويل؟
في سبت الأموات، تستفيق القرى والمدن على رائحة الزعتر الطازج والخبز المرقوق، وتُوزَّع “القرابين” عن نفوس الراقدين، لكن هذه الطقوس ليست مجرّد تقاليد موروثة، بل هي جزء من فهمنا العميق أن الموت لا يقطع الصِلات، وأن الكنيسة الواحدة جسد حيّ يضم الأحياء والراقدين على حدّ سواء.
إنها أرثوذكسيتنا الشعبية العميقة، تلك التي تنقش الحنين في كل تفصيل: في صوت الكاهن وهو يقرأ “نيّحهم يا ربّ”، في دمعة المصلّي وهو يذكر اسم والدته المتوفاة، في البخور الصاعد كما صلاة صامتة، وفي الكنائس القديمة التي تحتضن جدرانها أسماء الراقدين منذ أجيال.
في زمن يغلب عليه النسيان، يأتي سبت الأموات تذكارًا جماعيًا يرفض الانقطاع، يصرّ على الذاكرة، وعلى أن نستعيد أسماء من عبروا هذا الدرب قبلنا. هو فعل حبّ، لا حزن، فعل وفاء، لا بكاء. وفي بلادٍ يموت فيها الإنسان مرّتين، مرة حين يُقتل، ومرة حين يُنسى، يصبح سبت الأموات مقاومةً ضد محو الذاكرة، واستعادةً حارّة للوجوه التي نحبها.
فلنحمل إلى موتانا الرحمة، ولأنفسنا التذكار.
فلنقف في الكنائس بهدوء، نذكر الأسماء، ونضيء القلوب.
لأنهم لم يرحلوا فعلاً. هم فينا.
هم نحن، لكننا نُكمل المسير.
05/06/2025 09:14 pm 113