كنوز نت - بقلم: رانية مرجية

في الرملة: حين يتحد الماضي بالحاضر… وتهدأ النزاعات بالحوار

بقلم: رانية مرجية



في زمن يسارع نحو النسيان، جلس الجيل الذهبي في قاعة صغيرة في الرملة، لا ليسترجع فقط ذكرياته، بل ليعيد صياغتها بحبر الحياة المعاشة، في ورشة بعنوان “الربط بين الماضي والحاضر”. ثلاث ساعات من البوح الدافئ، تبادل فيها المشاركون، ممن تراوحت أعمارهم بين 75 و87، صورًا قديمة، وحكايات عن أعراس وأعياد وأغانٍ ظلّت تسكن الذاكرة رغم الغبار.



ورشة لم تكن مجرد نشاط ترفيهي، بل محاولة واعية لإعادة الاعتبار لذاكرة الفرد والجماعة. “احكولنا عن إشي من الماضي بعده ساكن في قلبكم”، هكذا بدأ اللقاء. وكانت الإجابات تتدفّق كما لو أنّ الماضي لم يغب أبدًا: عن أم كانت تخبز في فرن الحارة، عن بائع بوظة يجوب الأحياء بصندوق خشبي، عن رقصة دبكة كانت تُغنّى في الساحات.



وقد تفاعل المشاركون بعمق، حين عُرضت صور قديمة للسوق أو للعروس بثوبها المطرز يدويًا. أحدهم سأل: “وين راحوا الناس الطيبين؟”، فأجابه آخر: “لسّا الخير موجود، بس الدنيا تغيّرت”. وعلى وقع أغنية تراثية، تعالت أصوات الغناء الجماعي، وكأن الزمن تراجع خطوة احترامًا للحظة صدق.



لكن الورشة لم تخلُ من تحديات. أحد المشاركين، مدفوعًا بالحماس أو ربما بفائض الذكريات، قاطع الآخرين مرارًا. وهنا تبيّن كيف يمكن للموجّهة، حين تتحلى بالهدوء والحزم، أن تُعيد توازن المجموعة وتُرسّخ ثقافة الإصغاء. أعادت توجيه الحوار بلطف، وذكّرت بأهمية الاحترام المتبادل. وكانت النتيجة لحظة نادرة من الاعتراف المتبادل بالوجود.




أما الورشة الثانية، والتي حملت عنوان “مهارات فعالة في إدارة وفضّ النزاعات”، فجمعت سيدات تتراوح أعمارهن بين الخمسين والثمانين، معظمهن من خلفيات أكاديمية. لكن لا شهادات ولا مناصب كفيلة بمنع التوتر حين تتصادم الآراء. ورغم التحديات، نجحت الورشة في أن تتحوّل من ساحة نقاش محتقن إلى مساحة تعلم وحوار.



كانت البداية بتعريف بسيط: ما هو النزاع؟ متى يولد؟ وكيف ينمو؟ ثمّ جاء الفيديو الرمزي “الجسر”، ليكشف أن النزاعات ليست بالضرورة حول “الموضوع”، بل حول سوء الفهم. ثم تمارين التنازل والتفاوض، وألعاب الهاتف المكسور، التي أظهرت كم نُسيء الفهم حين نُصغي لنردّ لا لنفهم.



برزت مهارات الإصغاء والتعاطف بوصفها حجر الزاوية لأي محاولة لحلّ النزاع. حين طُلب من كل مشاركة أن تقول مشاعرها بلغة “أنا” بدل “أنت”، ظهرت تحولات حقيقية في طريقة التعبير. ففي لحظة عابرة، حين طلبت إحدى السيدات من الجميع تخفيف الضوضاء، لم يُقابل طلبها بالتجاهل أو التهكم، بل بتقدير واضح. أحيانًا، كلمة بسيطة قد تنقذ جلسة كاملة.



وقد عكست استمارات التقييم ذلك النجاح؛ أكثر من 80% من المشاركات أكدن أن الورشة كانت مفيدة وملهمة. وبرزت دروس كثيرة: أن الاستماع بصدق قد يكون أقوى من أي حجة، وأن ضبط النفس مهارة لا تقل أهمية عن الفصاحة، وأن الوسيط الجيد لا يُصدر الأحكام، بل يفتح نوافذ الاحتمالات.



أما أنا، كميسّرة للورشتين، فقد خرجت بمعرفة عميقة ليس فقط عن مضمون اللقاءين، بل عن نفسي. أدركت أن التوجيه ليس مجرد تمرير معلومات، بل حفر آبار من الثقة، وتحفيز العقول والقلوب معًا. وتيقنت أن كل قصة تُحكى، هي حجر صغير في جسر كبير بين الأجيال.



لقد كان الربط بين الماضي والحاضر في الورشة الأولى، ومعالجة النزاعات في الورشة الثانية، فعلاً من أفعال المقاومة الناعمة: مقاومة التهميش، ومقاومة النسيان، ومقاومة التوتر بانتصار الحوار