كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


سعيد سلامة… حين ينطق الجسد الفلسطيني بالصمت
بقلم: رانية مرجية
في وطنٍ يغرق في الضجيج، وحكايات تُروى بأصوات مبحوحة من كثرة الوجع، يخرج سعيد سلامة من رحم الألم الفلسطيني، لا ليصرخ، بل ليسكب علينا صمتًا أبلغ من الكلمات. إنه ابن شفاعمرو، الذي قرر أن يحوّل جسده إلى منبر، أن يجعل من الإيماءة لغة، ومن البانتوميم فلسطينًا تمشي فوق المسرح.
النبض الأول: بدايات من الضوء
وُلد سعيد سلامة في مدينة شفاعمرو، هذه البلدة الفلسطينية الكنعانية التي تنجب فنانين من نوع آخر، فنانين لا يقفون على أطلال الخسارات، بل يصنعون من الركام خشبة مسرح. بدأ مشواره الفني في أوائل الثمانينات برفقة شقيقه الراحل زيدان سلامة، ليشكلا معًا ثنائيًا نادرًا في فن التمثيل الصامت، فن يستند إلى ما لا يُقال، ويُبنى على ما لا يُرى.
درس سعيد فن البانتوميم في كلية “بيت روتشيلد” في حيفا، ثم تابع تأهيله الأكاديمي في “معهد ثقافة الشعوب” بالقدس، قبل أن يكمل تكوينه في مدرسة مارسيل مارسو في باريس، حيث لمس روح معلمه الفرنسي لكنه لم يقلّده، بل تفوّق عليه فلسطينيًا، إذ صهر تقنياته في بوتقة الوجع الفلسطيني، فصار له أسلوبه الخاص.
المدرسة التي خرّجت الضوء
لا يكتفي سعيد بالعروض الفردية، بل أسس “مدرسة سعيد سلامة لمسرح الإيماء” في قلب شفاعمرو، والتي باتت أشبه بمختبر فني يخرّج جيلًا جديدًا من الممثلين القادرين على أن يعبّروا عن همومهم من دون أن ينبسوا بكلمة. كل عام، يقدّم طلابه عروض تخرّج تمسّ الذاكرة الفلسطينية، وتؤرخ لها من خلال الإيماءة والرقص التعبيري.
كما أسّس “مؤسسة زيدان سلامة للثقافة والفنون”، تخليدًا لروح شقيقه، وجعل منها راعية لفرقة مسرحية تجوب البلاد والعالم، وتحمل معها “المهرجان الدولي للتمثيل الصامت”، الذي أصبح حدثًا سنويًا تستضيفه شفاعمرو، ليقول للعالم: في هذه الأرض المحتلة، لا يزال المسرح حيًّا.
غسان كنفاني يبتسم من خلف الستار
من أبرز أعمال سعيد مسرحية “رجال في الشمس”، التي اقتبسها عن رواية غسان كنفاني، وقدمها بطريقة بصرية بحتة، من خلال جسده والموسيقى والرقص. لم يتحدث في العرض، لكنه قال الكثير: عن الخيانة، عن الضياع، عن الحافلة التي لم يطرق أحدٌ جدرانها في الوقت المناسب. جعل من الصمت مشهدًا صاخبًا، حتى إن الجمهور لم يعد بحاجة إلى كلمات ليفهم أن ما حدث عام 1948 لا يزال يحدث حتى اللحظة.
المرض كعقبة… والمسرح كقيامة
في يوليو 2023، وبينما كان يستعد لعرض جديد، أُصيب سعيد سلامة بسكتة دماغية خطيرة. لم يكن المشهد سهلاً: الجسد الذي اعتاد التحدث بالصمت، خذله فجأة. أصبح مهددًا بالغياب. لكن سعيد، كما يليق بفلسطيني من جبل الجليل، لم يستسلم. قاوم. تعافى. وعاد.
عاد إلى المسرح كما يعود الشهداء في الأغاني، منتصرًا على كل شللٍ، جسدي أو روحي. قال: “المسرحية مستمرة”. قالها بصدق المُمثل، وبإيمان المؤمن، وكأنها تعويذة ضد الموت. عاد إلى جمهوره ليؤكّد أن الفن لا يشيخ، ولا يُهزم.
حين يصبح الفن وطنًا آخر
سعيد سلامة، في جوهره، ليس مجرد فنان فلسطيني. إنه مُعلّم، ومقاوم، وصوفيٌ على خشبة مسرح. لا يملك ميكروفونًا ولا شعارًا، لكنه يملك لغة لا تحتاج إلى ترجمة. حين يرفع يده، نشعر أن فلسطين تنهض معه. حين يتحرّك، يتحرك الوطن. في صمته، تعيش آلاف الحكايات: عن لاجئ خائف، عن أم تنتظر، عن مقبرة جماعية لا تزال تُفتح كل يوم.
هو فنان يرفض التسييس، لكنه في عمق تجربته، سياسي أكثر من أي سياسي. لأنه لا يساوم، ولا يتوسل، بل يصنع لغة جديدة، بلا ضجيج، لتروي لنا ما عجزت السياسة عن قوله.
كلمة أخيرة

في هذا الزمن العربي البائس، حيث تتقافز الأصوات المزيّفة فوق الشاشات، يظل سعيد سلامة فنانًا نادرًا، يربّي الأمل في مدارس الإيماءة، ويعلّمنا أن الحكاية الحقيقية لا تُروى بالكلام، بل بالجسد، بالعيون، بالسكوت الذي يحكي ما لا يحتمل النُطق.
سعيد سلامة… طوبى لك. طوبى لجسدك الذي لم يخنك، ولصمتك الذي دوّى أكثر من ألف قصيدة.