كنوز نت - الطيبة : بقلم الاعلامي ناضل حسنين


غربال الشرطة وشمس الحقيقة

في لحظة صدق قاسية، كشفت الشرطة الإسرائيلية عن وجهها الحقيقي عندما اشترطت للموافقة على مظاهرة ضد الحرب في تل أبيب ألا تُرفع فيها "صور لأطفال أو رُضّع من غزة". هذا القرار، الذي تراجعت عنه لاحقاً بعد فضحه في صحيفة "هآرتس"، يكشف حقيقة مروعة: الخوف ليس من الصواريخ وحدها، بل من الصور أيضاً. الخوف من أن يرى المجتمع الإسرائيلي وجوه الضحايا الحقيقيين لهذه الحرب.
لماذا تخشى دولة تمتلك كل هذه القوة العسكرية والأمنية صور أطفال لم يعودوا أحياء؟ ما الذي يمكن أن تفعله صورة طفلة رضيعة قُتلت في القصف؟ هل يمكن لابتسامة إيمان صبري، الطفلة الشقراء التي قُتلت في خان يونس، أن تهدد أمن دولة عظمى؟ أو هل يشكل أيمن أحمد أبو عزوم، ابن العامين الذي يظهر في صورته وهو يمضغ قلماً كأي طفل في سن التسنين، خطراً وجودياً على إسرائيل؟
إن منع صور هؤلاء الأطفال ليس حماية للمجتمع الإسرائيلي كما تدعي السلطات، بل محاولة يائسة لحماية الرواية الرسمية من الانهيار. فعندما تُعرض وجوه الضحايا، يصبح تصنيفهم كـ"ضالعين" – وفق الخطاب الرسمي – ضرباً من السخرية المأساوية. كيف لرضيعة أن تكون متورطة في هجوم 7 أكتوبر؟ وأي منطق يجعل من طفلٍ بسن التسنين "إرهابياً"؟

يعيش المجتمع الإسرائيلي في زمن غريب، حيث تتحول براءة الطفولة إلى تهديد، وتُوصف الصور الحقيقية للحرب بـ"التحريض". لكن الحقيقة أن هذه الصور ليست سوى مرآة تعكس واقعاً دموياً يحاول المسؤولون في إسرائيل تجنبه بأي ثمن. إنها الجانب المظلم للحرب الذي من المفضل إبقاؤه بعيداً عن الأنظار.
وفي هذا الجانب المظلم، تتشابك المصائر بشكل لا فكاك منه. فمصير الرهائن الإسرائيليين مرتبط، سواء أرادوا أم لم يريدوا، بمصير المدنيين الفلسطينيين المحاصرين حولهم. موت هؤلاء تحت القصف يعني موت أولئك، وجوع الأطفال في غزة يعني جوعاً موازياً للرهائن الإسرائيليين في الأسر. هذه معادلة قاسية، لكنها حقيقة لا مفر منها.
أكثر من 15 ألف طفل غزي قُتلوا منذ بداية الحرب، بينهم 322 بعد انتهاء وقف إطلاق النار الشهر الماضي وفق الأمم المتحدة. هذه ليست أرقاماً مجردة، بل أحلاماً انطفأت، ومستقبلاً تحول إلى ركام. أطفال كانت لهم ضحكات ولعب وحقائب مدرسية، تماماً كما لأطفال إسرائيل. لم يختر أي منهم مكان ميلاده، لكن القدر اختار أن يكون بعضهم وقوداً لهذه الحرب.
قد يرى البعض في منع الصور حماية للمجتمع الإسرائيلي من "التحريض"، لكن السؤال الأخلاقي الأعمق يظل: أي التحريضين أخطر؟ إظهار نتائج الحرب الدموية، أم تزييف الواقع وإنكار وجود ضحايا؟ هل الخطر في تعرية الواقع، أم في تحويل البشر إلى أرقام بلا وجوه أو أسماء؟

إن حظر صور الأطفال اعتراف ضمني بوجود خطأ جوهري في هذه الحرب. فلو كانت "عادلة" كما تروج لها إسرائيل، فلماذا الخوف من عواقبها؟ لماذا تعتبر مواجهة ضحاياها تهديداً؟

يمكن للسلطات الإسرائيلية مصادرة الصور، وتقييد الحريات، وتجريم التعاطف الإنساني باعتباره "خيانة". لكن الحقائق لن تختفي. ستظل تنتظر خلف الجدران العالية، في انتظار لحظة يقظة الضمير.
مع كل طفل فلسطيني يدفن تحت أنقاض غزة، يتراجع الأمل في مستقبل آمن حتى لأطفال إسرائيل. فما من سلام يبنى على جماجم الجيران، ولا ازدهار يتأسس فوق جثث الأبرياء. الحرب التي تُفقد الإنسان إنسانيته لا تنتصر أبداً.
وبينما تستمر عمليات القصف، وتتصاعد حصيلة الضحايا، يطرح الواقع أسئلة وجودية على المجتمع الإسرائيلي: أي مجتمع هذا الذي يخاف من صور الأطفال؟ وأي مستقبل يصنعه لمن يمنع أطفاله من رؤية وجه الحرب الحقيقي؟ هل يمكن لمجتمع أن يحافظ على قيمه وهو يعيد تعريف التعاطف كجريمة؟
الإجابات ليست سياسية فحسب، بل أخلاقية تحدد مصير المجتمع ذاته. فالمجتمع الذي يرفض مواجهة مرآة أفعاله يفقد بوصلته الإنسانية. والذي يخشى صور ضحاياه يعيش في هشاشة أخلاقية تهدد كيانه أكثر من أي صاروخ معادٍ.
الحقائق لا تختفي بحظر نشرها. فهي تبقى هناك تنتظر في الظل، تنذر بأن كل طفل يقتل هو إدانة للضمير الجمعي. السؤال الذي يلوح في الأفق: كم من المرايا يجب أن تُهشم قبل أن يرى المجتمع الإسرائيلي انعكاسه الحقيقي؟

  • بقلم الاعلامي ناضل حسنين