كنوز نت - د. إدريس جرادات، د. شفيع بالزين


كتاب الرسائل العربية


التقديم: أدب الرسائل لا يموت... ما دامت قلوبنا تنبض
      
د. إدريس جرادات، د. شفيع بالزين

عرف المجتمع العربي- شأنه شأن جل المجتمعات في فترات استقرارها وتمدنها- أدب الرسائل، وازدهر خاصة في القرنين الرابع والخامس للهجرة بالعراق والأندلس، وتنوعت أجناسه (الرسائل الديوانية، الرسائل الإخوانية، الرسائل الأدبية، الرسائل القصصية الخيالية...) وتعددت أغراضه ومواضيعه واتسعت لجل قضايا الثقافة العربية وشواغل الكتاب والأدباء في ذلك العصر. وتُعَدُّ الرسائل المتبادلة بين الأدباء وهي التي اصطُلح عليها بالرسائل الإخوانية أبرز أجناس الرسائل التي تمثل أدب الترسل لا في بعده البلاغي فحسب وإنما كذلك في بعده الذاتي خاصة، فقد عبر هذا الجنس الترسلي عن العلاقات بين الأدباء في أبعادها الذاتية والتاريخية وكشف عن ملامح للذات يندر أن تكشف عنها أجناس أدبية أخرى، سواء لكونه مجالا أساسيا لازدهار الأغراض الترسلية الذاتية (الشوق، الشكوى، التهنئة، التعزية، العتاب...) أو لكونه مجالا لبناء علاقات ذاتية شخصية أو أدبية (الصداقة خاصة)، ولعل الرسائل المتبادلة بين الخوارزمي والهمذاني أنموذج جيد دال على ما بلغه فن الترسل عامة، وأدب المراسلات بين الأدباء خاصة من ازدهار ورقي في المستويين الأدبي والإنساني في القرنين الرابع والخامس للهجرة.
ثم عرف أدب الرسائل- كغيره من الأجناس الأدبية- تراجعا وجمودا بعد القرنين الرابع والخامس للهجرة وبقي مغيّبا ومهملا طيلة الفترة التي عُرفت بعصور الانحطاط، ولم يعاود الظهور والازدهار إلا في عصر النهضة أو العصر الحديث. غير أن أدب الترسل في المرحلة الأولى- أي المرحلة الكلاسيكية- غلب عليه تقليد فن الترسل القديم والنزوع إلى إحياء تقاليده وأساليبه وأغراضه ومعانيه، فغلب عليه التكلف والاحتفاء بالأساليب البلاغية المهيمنة على النثر الفني القديم، والتقيد بأغراض الترسل التقليدية، فاختفت نتيجة ذلك ملامح الذات الخاصة ومميزات التجربة الذاتية وهيمنت صور نمطية وملامح نموذجية ساهمت في تشكيلها التقاليد الموروثة والمعاني المتداولة والأغراض المستقرة أكثر مما عملت على نحتها التجارب الذاتية والعلاقات الخاصة وتأثيرات البيئة الحضارية والثقافية الجديدة، ولعل من أبرز النماذج الممثلة لهذا النوع من الترسل التقليدي الرسائل المتبادلة بين أحمد تيمور والكرملي، والرسائل المتبادلة بين إبراهيم اليازجي وقسطاكي الحمصي.
ومن حسن الحظ أن هذا الاتجاه التقليدي في أدب الترسل لم يدم طويلا، فمع ظهور الاتجاهات الأدبية الحديثة انطلاقا من التيار الرومنطيقي، رفض الكتّاب النموذج الترسلي التقليدي وتحرروا من تقاليده البلاغية وأغراضه، وأنشأوا نمطا ترسليا جديدا عبر من خلاله الكتاب عن مختلف تجاربهم وشواغلهم بكل تلقائية وحرية، وهكذا برزت صورة جديدة للكتاب في رسائلهم تجاوزت الذات النمطية التي صنعتها تقاليد الترسل وأغراضه التقليدية، لتتشكل ذات خاصة تعكس التجارب الحقيقية والعلاقات الفعلية التي تأسست عبر المراسلات أو ساهمت المراسلات في نحتها مثل الصداقة والحب والأدب وغيرها. وازدهرت بذلك حركة الترسل، وساهمت في ازدهارها عوامل عديدة منها عوامل موضوعية (ازدهار الطباعة والبريد- التباعد المكاني بسبب الهجرة أو التنقل- ظهور المدراس والحركات الأدبية- اطلاع الكتاب على نماذج من المراسلات الغربية...) وأخرى ذاتية (تجارب الغربة، علاقات الصداقة أو الحب- العلاقات الأدبية...). ولئن تعددت المراسلات بين الكتاب في العصر الحديث فإنها لم تلقَ جميعا الحظوة والشهرة والمكانة نفسها، إذ بينما ظلت العديد من المراسلات طي النسيان والإهمال اشتهرت مراسلات أخرى وحظيت بالاهتمام والانتشار لأسباب مختلفة قد تعود بعضها إلى شخصية الكاتب المترسل (شهرته، تأثيره...) مثل جبران خليل جبران ومي زيادة وأبي القاسم الشابي ومحمود درويش وسميح القاسم... وقد يعود بعضها الآخر إلى شهرة العلاقة الترسلية سواء تمثلت في الصداقة (الصداقة التي جمعت بين الشابي والحليوي، أو بين درويش والقاسم) أو تمثلت في الحب (جبران خليل جبران ومي زيادة، أو غسان كنفاني وغادة السمان). بل بلغت المراسلات بين الكتاب من الأهمية ما جعل بعضهم ينشئون علاقات صداقة أو حب عبر المراسلات دون أن يلتقوا في الواقع، مثل العلاقة المتينة والطويلة التي جمعت بين جبران خليل جبران ومي زيادة دون أن يلتقوا يوما على أرض الواقع. وقد يعود ذلك أيضا إلى ما تتميز به الرسائل المتبادلة من قيمة ذاتية أو أدبية أو إبداعية سواء لما فيها من نزوع إلى البوح والاعتراف (شأن رسائل غسان كنفاني) أو ما تتسم به من طاقة شعرية أو مزج بين الترسل والسيرة وكتابة الذكريات والشهادات المشتركة شأن الرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم.

غير أن هذه الحركة الترسلية الحديثة التي تواصلت طيلة النصف الثاني من القرن العشرين بدأت في التراجع والجمود مع بداية القرن الواحد والعشرين وخاصة مع التطور التكنولوجي ودخول العصر الرقمي والشبكي، وانتشار وسائل التواصل الحديثة التي حلت محل البريد والرسائل الورقية وظهور ما يسمى بالبريد الالكتروني، وبرامج الاتصال. وصارت الاتصالات سريعة وآنية، وأصبحت الرسائل مقتضبة، واستعاض الأفراد عن الرسائل المكتوبة بالمكالمات والرسائل الصوتية أو الاتصال المباشر عبر الفيديو. وقد ذهب في ظن الكثيرين أن هذه التكنولوجيات الحديثة وما أفرزته من وسائل اتصال متطورة قد قضت نهائيا على أدب الترسل وأدت إلى انقراض هذا الجنس الأدبي مثلما انقرضت أجناس أدبية أخرى لم تعد تستجيب لحاجات عصرنا وأذواقنا مثل الخطبة والنادرة والمقامة والحكاية المثلية والموشح والأرجوزة وحتى القصيدة العمودية التي باتت مهددة هي أيضا بالانقراض. غير أن أدب الرسائل الخاصة في عصرنا الراهن ليس في الواقع كما تَصَوَّره هؤلاء، فهو مازال موجودا ولم يندثر، وما فتئ الكتاب يتبادلون الرسائل ولم ينقطعوا يوما عن تبادل الرسائل، ولم يغيروا من هذه العادة أو التقليد بل غيروا الوسيط أو الشكل الترسلي فقط، وانتقلوا مجاراة للتطور التكنولوجي من الرسائل الورقية إلى الرسائل الالكترونية. أما محدودية انتشار هذه الظاهرة الترسلية مقارنة بانتشار الأجناس الأدبية الأخرى (الرواية، الأقصوصة، السيرة الذاتية، القصيدة...) فيعود إلى السبب نفسه الذي جعل الرسائل الخاصة قليلة قديما وحديثا، وهو قلة العناية بجمعها ونشرها لأسباب يطول شرحها، ولذلك كانت دائما الرسائل المكتوبة والمتبادلة أكثر بكثير من الرسائل المنشورة أو المتداولة بين القراء.
ولعل ما يؤكد أن فن الرسائل الخاصة مازال حاضرا ومزدهرا صدورُ مجموعات رسائلية عديدة في السنوات الأخيرة في بلدان عربية مختلفة نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر: "رسائل لم يحملها ساعي البريد" لراوية اليحياوي (من الجزائر) و"رسائل من القدس وإليها" لصباح البشير وجميل السلحوت (فلسطين)، و"رسائلي إلى ريما" لسنيا الفرجاني (تونس)، و"نصف قلب وضفتان" لوحيدة المي ومحمد الهادي الجزيري (تونس)، إضافة إلى مجموعات رسائلية مرقونة في طريقها إلى النشر مثل "ضفة ثالثة" لفتحية دبش وحسن المصلوحي (تونس/المغرب).
ولعل أقوى دليل على أن فن الرسائل الخاصة لم يمت أو يندثر وإنما ظل يعيش في صمت وينتظر فرصة الإعلان عن وجوده هو المبادرة الأخيرة التي أطلقها مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي بفلسطين لإصدار كتاب في أدب الرسائل، وما إن وجه دعوة على مواقع التواصل الاجتماعي للمشاركة في هذا المؤلف الجماعي حتى تهاطلت عليه سريعا الرسائل من كل بلد عربي وجمع في ظرف وجيز أكثر من مائة رسالة. وهو ما يؤكد أن الكتّاب كانوا دائما يكتبون الرسائل ويتبادلونها في كنف السرية أو في صمت، أو كان ينتظرون مثل هذه المبادرة لتتفتح قرائحهم على ألوان من الكتابة الرسائلية متنوعة الأشكال والأساليب والمواضيع. وهو ما يدل أيضا على أن الكتاب يحبون قراءة الرسائل وكتابتها، وصاروا أيضا يرغبون في نشرها ولا يجدون في ذلك حرجا أو مانعا. خاصة أن هذه الرسائل تعبر عن تجارب ذاتية عميقة وتكشف عن معان وقيم إنسانية راقية، وتؤكد ميل الكتاب إلى كتابات الذات والحميمي، وتعلقهم الدائم بجمال العبارة وبلاغة التعبير دون تكلف وإسراف في استدعاء الأساليب البلاغية المعروفة. غير أن كثرة الرسائل المرسلة للنشر وتفاوتها من حيث القيمة الأدبية وعمق المعاني المعبر عنها، ومن حيث صلتها بأدب الرسائل الخاصة، جعلت مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي بفلسطين يوكل مهمة الفرز والغربلة واختيار الرسائل الجديرة بالنشر سواء لقيمتها الأدبية أو لعمق مضامينها أو لجمعها بين القيمتين إلى الدكتور إدريس جرادات (رئيس المركز، من فلسطين) والدكتور شفيع بالزين (مختص في أدب الرسائل، من تونس). وبعد الاطلاع على مجموع الرسائل المرسلة والتشاور بشأنها وقع الاتفاق على اختيار عدد لا بأس به من الرسائل التي سيضمها هذا المؤلف، وهي رسائل قدّرنا بعد تدبر وطول قراءة أنها الأفضل والأجدر بالنشر. ولئن كان العنوان الذي اخترناه لهذا المؤلف "رسائل عربية" لا يعكس تماما مجموع الرسائل المنشورة نظرا إلى اقتصارها على بعض البلدان العربية وهي فلسطين وتونس والجزائر والمغرب، فإن ذلك لم يكن اختيارا منا أو تحيزا لبلد دون آخر، وإنما كانت المعايير التي اعتمدنا في اختيار الرسائل (صلة الرسالة بأدب الرسائل الخاصة- سلامة اللغة- جودة الأسلوب- عمق المعاني) هي المحددة لهذه الاختيارات. ونرجو من الله أننا وفقنا في اختياراتنا بعد طول نظر وتدبر وتشاور.
وقد فكرنا في البداية في تصنيف هذه الرسائل وتبويبها وفق أنواعها الفرعية أو أغراضها ومواضيعها غير أننا عدلنا عن ذلك لأسباب عديدة منها تداخل الموضوعات والخطابات في الرسالة الواحدة، ومنها اقتناعنا أن الرسائل الحديثة ليست كتابة غرضية وإنما هي فضاء ذاتي أو بين-ذاتي لتداعي الأفكار والمعاني والموضوعات. ولذلك خيرنا تجنب هذا النوع من التصنيف والتوزيع الذي يمكن أن يعيد الرسائل المعاصرة إلى الأنموذج الترسلي القديم أو التقليدي، وفضلنا بدل ذلك أن نوزع هذه الرسائل حسب البلدان التي ينتمي إليها الكتّاب، أولا حتى يتناسب هذا التوزيع مع العنوان (رسائل عربية) وثانيا حتى يتبين لنا ما يجمع بين كتّاب الوطن العربي من تجارب وقيم وعوالم مشتركة أو متقاربة أو متجاوبة من جهة، وما يميز كل بلد من تجارب رسائلية ذات خصوصيات تستمدها من الطابع المحلي للبيئة التي ينتمي إليها الكتاب وأصالة التجارب التي عاشوها فيها، من جهة أخرى. وأخيرا لا يفوتنا أن نوجه شكرنا لكل من شارك في إعداد هذا الكتاب وساهم في صدوره من كتّاب شاركوا برسائلهم وفنانين رسامين أو خطاطين أهدونا لوحاتهم ورسوماتهم لنشرها ضمن هذا المؤلف. ويجدر بنا أن نذكر بأن مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي بفلسطين الذي كان وراء هذه المبادرة وتبنى مشروع الكتاب وسهر على إنجازه ونشره في أجمل صورة وأكمل شكل سيطلق مبادرات أخرى لتأليف كتب جماعية في مجال أدب الرسائل وغيره من أشكال الإبداع والإشراف عليها إعدادا وتصميما وإصدارا، وذلك سعيا منه كعادته إلى خدمة الثقافة العربية الأصيلة والراقية ودعم الإبداع العربي بمختلف أشكاله ومظاهره.
د. إدريس جرادات، د. شفيع بالزين