كنوز نت - حسن عبادي/ حيفا


متنفَّس عبرَ القضبان (89)

  • حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019 (مبادرة شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/ أو مؤسسّة)؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّبت أنوار (ابنة مخيم الدهيشة): "كل الشكر أستاذ حسن عبادي اطمئناننا على خالتي في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها أسيراتنا وأسرانا والحرية القريبة للأسرى وللأسيرات".

وعقّب الصديق سعيد أبو لبن من الشتات: "لك كل التقدير وصاحب الجهد المتواصل لمتابعتك الدؤوبة للأسرى والأسيرات الفلسطينيون في جيتوهات الجديدة. دام عطاؤك لحين الحرية الكاملة وزوال الاحتلال عن أرضنا."
وعقّب الصديق حسام الأحمد: "جزاك الله خيراً يا مدرسة الإيثار في خدمة أبناء شعبك البطل وليت الكثيرين منا يتعلمون أن كفة القضايا الوطنية يجب أن تعلو على كفة الأنا الذاتية).
وعقّب الصديق أنس أبو سعدة (هولندا): "يا الله يا حسن كيف تجعلنا نعانق أسرانا دون أن نكون معهم!!"

"صِرِت قضيّة"

تخيّلت للحظات تحرّر كافّة الأسرى لأسدل الستار على مبادرتي التواصليّة معهم وفجأة تواصلت معي أنوار ممّا دفعني لألتقي صباح الأربعاء 18 أكتوبر 2023 في سجن الدامون بأعالي الكرمل السليب بخالتها الأسيرة روضة موسى عبد القادر أبو عجمية، ابنة مغلس المهجّرة، وابنة مخيم الدهيشة (مواليد 1977)، اعتقلت يوم 04.04.2023، وبعد التحيّة أخذت تصوّر لي مشهد السابع من أكتوبر، لحظة مفصليّة في تاريخنا، والشدّ والمدّ مع إدارة السجن ورشّ الغاز وما تبعه، فشّ فورة ولا كانتينة ولا تلفزيون ولا "بلاطات" ولا "قماقم" ولا تليفونات...ولا حتى برنامج راديو أجيال ولا راديو فلسطين!
قالت بسخرية سوداوية قاتلة: "صِرِت قضيّة"، وحدّثتني عن تفاصيل لحظة الاعتقال ورحلة العذاب من الدهيشة إلى عصيون إلى بانوراما إلى عوفر إلى كيشون ومن ثم الدامون، وصدمة إخبارها بالإداري.


خبّرتني عن خيبة الأمل والانقطاع عن العالم الخارجي وأخبار الأهل والبلد والمحامين.
حدّثني عن زميلات الأسر (47 أسيرة)، والأسيرات الجدد؛ أصالة المقدسيّة، هيا الطيباويّة، دانا الرملاويّة، آية المقدسيّة، قطر الندى الشفاعمرويّة، سجى النقبويّة، ومي النصراويّة – فسيفساء الكلّ الفلسطيني.

كتبت روضة تحت عنوان "قراري الدائم": "وأنا أكتب اليوم عن مَسقط قلبي ورأسي، مكانين أنتمي إليهما، أنني أكتبُ مِن مكانٍ آخر، حيث عودة الشخص إلى المُخيم مَرهونة بالحُكم الذي سيصدر! توجب عليّ البقاء في محطةٍ أخرى، لكن بشكلٍ مَقيت. فقد أحبَبتُ المُخيم، ولا زلت أُحِبُ قَريتي حتى العودة، إلا أنني ها هنا الآن، وأكره هذا المَكان وأكره لحظات البقاء فيه حقًا، فأنا كما قلت ابنة الحُرية والمُخيم، أما قَراري الدائِم، فهو بِغضّ النَظر عن المُدة التي سأبقى فيها هنا، أنني أُعلِن عن كرهي وبشدة لكل لَحظة أمضيها في السجن، أريدُ العَودة للمُخَيم، أُريدُ العَودة لقَريتي، أُريد العَودة لِروضة كانت من رِياض الجنة ما قبل الاعتقال الذي يُشبِه حُفرة كبيرة من حُفر النار! أريدُ العَودة لِعائلتي أُريدُ العَودة إليّ، بل ولكل ما يَمتُ لِقَلبي بِصِلة".
"جرى اللي جرى"



بعد لقائي بروضة أطلّت الأسيرة فاطمة إسماعيل شاهين، ابنة مخيم الدهيشة (مواليد 1990)، اعتقلت يوم 17.04.2023، على كرسيّ متحرّك، ترافقها الأسيرة عطاف جرادات، وحين رأت البغتة والدهشة على وجهي كسرت حاجز الصمت قائلة "جرى اللي جرى".

أخبرتها بأني هنا بناءً على طلب صديقي إسماعيل رمضان، فانفرجت أساريرها قائلة: "آه، أبو أسيل، زوجة أخوي طارق"، وأخذت تصوّر لي مشهد الاعتقال، كانت تمشي بقرب حاجز عصيون البغيض، وفجأة، رصاصتان بالعامود الفقري، تمّ نقلها إلى مستشفى "شعري تصيدق"؛ يلازمها جندي وجنديّة مدجّجان بالسلاح طيلة الوقت، مكَلبشة على مدار الساعة (إيدين/ إجرين/ كلاهما معاً – حسب مزاج الجندي المرافق، ورغم أنف الممرّضة)، بلاتين بالفقرتين السفلتين، استئصال كلية، 5 سم من الكبد، شلل نصفي، والطبيب يتوعّد: مش رايحة تمشي... وأسبوعين بدون حمّام!
وفجأة ابتسمت قائلة " "صرت أحرّك حالي"!

تلازمها الملاك عطاف جرادات (رافقتها 90 يوماً في مسلخ الرملة "بس يوم واحد طلعنا فورة وشفنا الشمس"، والممرّض هو السجّان).
 تتوق لعناق ابنتها أيلول (مواليد 24.08.2018)، احتضنتها مرّة واحدة منذ اعتقالها (طبنجة دخّلها مرّة لعندي، بالسِرقة)، وتطالب بالعلاج، آملة بحريّة قريبة.

"بكتِب حلو"

بعد لقائي بروضة أطلّت الأسيرة عطاف جرادات (مواليد 1973، اعتقلت يوم 27.12.2021، من قرية السيلة الحارثيّة)، ترافق زميلتها فاطمة وكرسيّها المتحرّك. كان لقاءً عفوياً دون ترتيب مسبق، وتبادلنا الأدوار، جلست في غرفة الأسيرات وهن في الخارج، حيث لا إمكانيّة لإدخال الكرسي المتحرّك لتلك الغرفة.


في بداية شهر أيار توجّهت إدارة سجن الدامون لمرح بكير وطلبت أن تفحص إمكانيّة نقل إحدى الأسيرات إلى سجن الرملة لمرافقة أسيرة جريحة فكان إجماع على "تطوّعها" للمهمّة، وفعلاً لازمت الأسيرة فاطمة شاهين 90 يوماً في مسلخ الرملة "بس يوم واحد طلعنا فورة وشفنا الشمس"، 07.05.2023 – 07.08.2023، والممرّض هناك هو السجّان، لا وجود للون الأبيض!، ومذّاك ترافقها ليل نهار، ووصفتها لي فاطمة ب "ملاكي".
  
حدّثتني بحِرقة عن أبنائها الثلاثة المعتقلين؛ المنتصر بالله في النقب الصحراوي، غيث الله في نفحة وعمر في الجلبوع، "هاي ضريبتنا للوطن".
درست حتى الصف السادس، وتقول بابتسامة طفوليّة: "بكتِب حلو"، بدأت تكتب وتقرأ لزميلاتها في الأسر ما تكتبه وتلاقي التشجيع ممّا زادها حماسة.
 لَكُنّ عزيزاتي روضة وفاطمة وعطاف أحلى التحيّات، الحريّة لَكُنّ ولجميع الأحرار، وكلّي أمل بلقاء قريب في فضاء الوطن.
        
حسن عبادي : حيفا/ أكتوبر 2023