كنوز نت - بقلم الأديبة الجزائرية / صبحة بغورة



عند المؤرخين التاريخ يعيد نفسه، بينما لا يرى السياسيون ذلك، ويبقى الاحتكام إلى الأحداث الجارية هو الفيصل وهو الحكم.
                                                                                 
  • صبحة بغورة
                           

محرقة اسرائيل الكبرى

 تقوم اسرائيل في قطاع غزة منذ عدة أيام بعمليات عسكرية شديدة العنف في حق مواطنين مدنيين أبرياء عزل ، عمليات انتقامية أصابت شعوب العالم بالفزعة وهي تلامس في قوتها و وحشيتها جرائم الحرب النازية خلال الحرب العالمية الثانية التي اكتوى بنارها اليهود أنفسهم ، إنهم يعرفونها وهي تعرفهم ، فهم يمارسون أقسى طرق الإبادة الجماعية على نحو يشابه نفس ما أقدمت عليه النازية ضدهم ، والاختلاف يكمن في أن النظام ألألماني الهتلري أرادت التطهر من نجس اليهود في بلاده ، بينما الدخلاء المحتلين من عصابات الإجرام الصهاينة تريد التخلص من كل شرائح أبناء فلسطين بالتصفية الجسدية أو بطردهم جميعا من بلدهم، لا فرق هنا بين طفل وشاب وشيخ ، لا فرق بين الرجال والنساء ، ولا رحمة بالحوامل ولا تقدير للمسنات أو شفقة بالمريضات ، لا فرق بين مخابئ المجاهدين وملاجئهم وبين المنازل والمدارس والمستشفيات ..
في كل مرة تعيد سيناريوهات الحرب في غزة ذكريات أليمة تزخر بها دفاتر الصراع المسلح العربي ـ الاسرائيلي ، صراع طويل ومرير تطورت قساوته مع تطور عالم صناعة الأسلحة الفتاكة وكافة أنواع المتفجرات شديدة التدمير ،وتعكس طبيعة القساوة العمياء للاعتداءات الصهيونية وجود أحقاد داخلية دفينة يراد التنفيس بها عن وطأة الخيبات كلما ضاقت بها الصدور ، ومحو الآثار السلبية العميقة كلما غلب العار شرور النفس وطارد الفشل غياب العقل وقهر الذل خساسة الروح ، ويبقى الشعب الفلسطيني والعربي يدفع ببطولته الثمن الغالي من أبنائه ومقدراته.


تمارس عصابات الصهاينة أساليب قمعية بدرجات تتجاوز كثيرا مجرد رد الفعل الذي يزعمون أنه ذات طابع عقابي ـ ردعي، كلا، ليس تهديم منازل الآمنين بالقنابل عقابا بل إرهاب دولة ، وليس ضرب المدارس وقتل الأطفال عقابا بل جريمة إنسانية نكراء، وليس قصف المؤسسات المدنية والمساجد والمستشفيات عقابا بل جريمة شنعاء، الحرب على غزة جريمة حرب مكتملة الأركان يعاقب عليها القانون الدولي والإنساني. عندما تندلع الحرائق دون مبرر في كل مكان، وينتشر القتل والتقتيل والانسحاب المفاجئ للمصابين والمعوقين من الحياة دون تمييز في جميع الأرجاء نصبح أمام حالة جريمة هستيرية ثلاثية الأبعاد للصهيونية، والحقيقة أنه سلوك ليس غريبا على اليهود قتلة الأنبياء والرسل.
ضغط حكم التاريخ يسيطر على طبيعة سلوك الصهاينة، إنهم يدفعون أهالي غزة دفعا ليتركوا أرضهم وممتلكاتهم وراءهم ويغادروا وطنهم إلى أراض دول أخرى مجاورة لا حق لهم فيها وذلك على نحو يشابه تماما ما تعرض له بنو اسرائيل بعد مطاردة الفراعنة لهم حتى مكّن الله تعالي لنبيه موسى عليه السلام شق البحر والنجاة بالهروب إلى صحراء سيناء. إنهم يحرقون البشر والحجر ويزيلون عائلات بأكملها من سجلات الحالة المدنية قتلا على نحو شابه تماما المحرقة التي تعرض لها يهود العالم من النظام النازي، والفرق أن تصفية اليهود كانت مقتصرة على جنسهم ، بينما تصفية الفلسطينيين يراد أن تستهدف محو جنسهم وسلب حقهم في الحياة و وحرمان أبنائهم من الحق في العيش والوجود على أرضهم وأرض أجدادهم. إن التهجير الجبري لسكان قطاع غزة يمثل خطرا كبيرا لأنه يستهدف تصفية القضية الفلسطينية.
كتب الله عز وجل على بنو اسرائيل الذلة والمسكنة ، فهم ليسوا مقبولين حتى في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، باستثناء قلة من السياسيين يتخذون من وجود اسرائيل أداة في قلب الوطن العربي لتعكير نعمة السلام والاستقرار، والمتتبع لسيناريوهات الأفلام الغربية يقف على حقيقة ذلك من خلال أقبح الأوصاف في الحوار الموجه لهم ليكون صباحهم دائما بلا ضوء.


اسرائيل تريد كسب مكانة دولية أكبر واعتبار عالمي أرقى ونيل اعتراف دولي بها واسع كقوة إقليمية مؤثرة سياسيا وأمنيا موثوق بها عالميا ، وترى أن ذلك لا يمكن أن يتحقق لها بعد تقاسم أرض فلسطين وفق حل الدولتين، فالخريطة المرسومة لا تمثل معني السيادة الكاملة على الإقليم لأي من الجانبين الفلسطيني أو الاسرائيلي، بل وحتى يصعب تحفيظ رسم خريطة أي من الدولتين لتلاميذ المدارس صغارا وكبارا.
 قد تكون اسرائيل قد نجحت في تشكيل قواعد اقتصاد قوي لكيانها المصطنع يقوم على العلم والتكنولوجيا والمعرفة والتواجد النشط في الكثير من الهيئات العلمية والتكنولوجية العالمية ولكن هذا لا يحقق لها كل ما تتطلع إليه من التفرد والتميز في محيطها العربي بسبب سياستها التوسعية القائمة على اغتصاب أراضي بعض الدول المجاورة على أساس إرهاب الدولة وجرائم أجهزتها .
وتماما مثلما لم يخضع فرعون لدعوة ربه على لسان موسى وأخيه هارون للتراجع عن طغيانه واستباحة دماء اليهود وأعراض نسائهم، ومثلما لم يتوقف زعيم النازية أدولف هتلر عن مطاردة اليهود ووقف التنكيل الشامل بهم ، فهكذا يريد الصهاينة تفريغ شحنة حنقهم من تاريخهم السيء ، والتنفيس عن مظلوميتهم باتباع مقولة : "وداوني بالتي كانت هي الداء.." وفي هذا يصمّون الآذان عن الدعوات الدولية لحقن الدماء ، ويخادعون المجتمع الدولي بالأكاذيب والافتراءات ،ويغالبون المنطق والشرائع والقانون، وللأسف يلقون من يقف إلى صفهم وهو يرى في غزة محرقة اسرائيل الكبرى .
                               
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


               

قوة المنطق السياسي تعزز العمل العسكري ..؟


  • صبحة بغورة
تقتضي تطورات الأحداث التي تطٍرأ في العلاقات بين الدول وقت اشتداد الأزمات فيما بينها أن يلجأ أحد أطراف النزاع إلى تصعيد موقفه منها حسب طبيعة ما يستجد فيها من ملابسات ، يكون هذا التصعيد في أغلب الأحوال من أجل فرض الحلول التي يراها هي الأفضل ، وبديهي أن يسعى هذا الطرف أو ذاك ممن يبصر في نفسه موقف القوة والتفوق أن تكون هذه الحلول بمثابة المرآة الصادقة للحفاظ على مصالحه ، والضامن الأكيد للبقاء في موقف القوة ، بل وأن تكون صمام الأمن المستقبلي لتجنب عودة نشأة مسببات الأزمة وتفادي تكرارها ، وعلى رأس مظاهر هذا التصعيد ،إعلان الحرب.
يحدثنا التاريخ أن قرار إعلان الحرب بين الأمم لم يكن يستغرق زمنا ، فلا يتجاوز مثلا مدته حدود بحث كيفية تنفيذه في الميدان ، كما لم يكن اتخاذ مثل هذا القرار الخطير بحاجة كبيرة لتوفير أسبابه المقنعة سواء كانت حقيقية أو واهية ،وسواء كانت مؤكدة أو محل شك فيها ، كما لم يكن اتخاذ القرار يتوخى تلمس حساسية الأوضاع السياسية المحيطة بقدر ما كان الأهم أن يكون العمل العسكري في حد ذاته موفيا لدواعيه كاملة ملحقا أشد الأضرار التي تحقق أهدافه سواء العقابية أو الانتقامية أو الردعية .. أو الاستعمارية ، إنه منطق القوة الذي سادت همجيته زمنا وقضى على ملايين البشر.
أبت كل المواثيق الدولية التي صدرت على أنقاض ما قاسته البشرية من ويلات الحرب العالمية الثانية إلا أن تواكب تطور الفكر الإنساني وأن تكون عاكسة لتطلع شعوب العالم نحو بناء حضارة تعترف بحق الأمم في التحرر وتؤكد حق الشعوب في العيش الكريم ، وأن توثق هذه الحقوق فتفرض على كافة الأنظمة السياسية احترامها وتجبر كل الحكومات على التمسك بها سلوكا وفكرا وعقيدة .

اتجهت جهود كل الدول في عصرنا الحديث إلى تطوير قدراتها العسكرية وتجديده وتحديث أسلحتها حتى أصبحت الصناعة العسكرية نشاطا رئيسيا حيويا في منظومة النشاط الاقتصادي للكثيرمن الدول الصناعية الكبرى ، وأصبحت العودة للسباق نحو التسلح ظاهرة مقلقة تهدد السلام العالمي وتناقض مبدأ نبذ العنف المسلح ، والسؤال الحائر هنا ، لماذا تجددت النزعة لامتلاك الدول المزيد من عناصر القوة المسلحة ؟ ولماذا ازدهرت تجارة السلاح عبر العالم ؟ ولماذا تسعى كل الدول إلى امتلاك أسلحة التفوق الاستراتيجية المدمرة ؟ الواقع لا يحمل دلائل النية الحسنة ، ولا يشير الى المساعي الحميدة ، حيث بات الميل إلى التهديد باستعمال القوة أعلى صوتا بل ويسبق الدعوات لترجيح الجهود السلمية واستغلال فضائل الحوار السياسي في تسوية الأزمات .
لا تولد الأزمات الدولية من فراغ ،وهي قد تنشب نتيجة مشاكل مستجدة أو بسبب خلافات تاريخية بقيت عالقة زمنا كقنابل موقوتة ، والسائد في العلاقات الدولية أن تجنح الدولة التي تستشعر أن حيفا قد أحاط بها أو ظلما قد أصابها إلى إفادة المجتمع الدولي كما هو مفترض بملابسات ما تعرضت له لحشد الرأي العام الدولي إلى جانبها ودعمه لها ضد خصومها وإنصافها لاسترجاع حقها ورفع الظلم عنها ، وكثيرا ما تعلن هذه الدولة أنها تحتفظ بحقها " المشروع " للحفاظ على حرمة ترابها وسيادتها وكرامة شعبها بالوسائل الممكنة وفي الوقت الذي تراه مناسبا ، إنه تلويح صريح باحتمال استعمال القوة المسلحة وفق مقولة " وقد أعذر من أنذر.." والحاصل أنه على قدر ما يمكن أن تسوقه أي دولة من أسباب أو تقدم ما أمكنها أن تسوغه من مبررات لاستعمال القوة المسلحة فهو لا يكفي لحصولها على تأييد دولي بإعطائها كل الحق في إعلان الحرب لأن الأمر مهما كان يتعلق في النهاية بإراقة الدماء ، وعليه فإذا كان المجتمع الدولي من جهة ينبذ العنف ويندد بسفك الدماء ، فإنه من جهة أخرى لم يملك إزاء الكثير من القضايا الدولية أدوات الضغط الكافية من خلال الهيئات والمنظمات الدولية التي تمثل إرادته للامتثال لقراراته ، بل أن صمت المجتمع الدولي كان دافعا لمضي بعض الأطراف في غيها مستفيدة من صعوبة تحقيق إجماع على إدانتها ، وأصبح على عاتق الدولة المطالبة بحق لها أن تزود خطابها السياسي بالمنطق الذي يبررلجوءها للعمل العسكري ويعززه وذلك حتى لا تقع تحت طائلة الاستنكار والتجريم أو أن تكون عرضة لعقوبات دولية قد لا تطيق تحمل تبعاتها وهي في أدني مستوى لها ، فالمنطق يقتضي أن تفيد الدولة المجتمع الدولي بكل الخطوات التي اتخذتها لحصر الخلاف في أضيق الحدود ، وأن تستعرض على المستوى الدولي كل الجهودها التي بذلتها من أجل احتوائه وأن تنشر بيانات بتحركاتها الايجابية في اتجاه الحل السلمي له ، وأن تؤكد صحة مواقفها على مستوى علاقاتها الدولية في شكلها الثنائي والمتعدد الأطراف وجعلها رسائل غير مباشرة للخصوم فيكون من المنطقي والمفهوم أنه الأمر نفسه بالنسبة للشركاء السياسيين يضخم بكل منطقية حجم الحلفاء من الدول .

يستمد المنطق السياسي أهميته في الجدل السياسي ، كما يستمد قوته من مقدار الواقعية والموضوعية في التناول ومن مدى الحيادية في الموقف والنزاهة في التقدير ،وكلها اعتبارات تفترض أن يكون من يحرص على اتباعها أن يكون على علم مسبق ومعرفة واسعة وإلمام كبير بكل جوانب المسألة ، وهي إذا اجتمعت فإنها تكسب صاحبها مهارة استغلال المناسبة بجعلها فرصة لاستحضار القيم التي تنفض الغبار عن الحقائق التاريخية التي ربما لا يصمد أمامها كل استنتاج متعجل ، فتكون بذلك محل إعجاب بالمسعى وتشجيع للمبادرة ودعوة للاقتداء ، إنها ميزة السداد في الرأي وفي إدارة الأزمات بالمنطق الذي يعزز الخيارات بما فيها الخيار العسكري الصعب الذي يناظر في صعوبته مفهوم الرباط الشرطي الخاص باعتماد ثقافة الخوف مثلا بزعم وجود خطر على البلد ومصلحة الوطن تعطي للأمن حق التدخل في السياسة الحكومية ، فثمة مواقف هي التاريخ ، وثمة مواقف في وجه التاريخ حاضرة ، وسياسات تنتج المزيد من المنطق الحضاري وتراعي خصوصيات الأمم وتتحاشى منطق التسوية الحضارية للأزمات ، وهناك سياسات تأخذ صفة الشاهد في المأساة ، ومن المنطق السياسي الاعتراف بأنه حيث لا توجد إيديولوجيا مسبقة على الواقع ، فإنه لا واقع بلا إيديولوجيا ، وعليه يمكن أن يخفي الصراع العسكري الظاهر خلافا إيديولوجيا عميقا يحتاج فيه كل طرف إلى ما يعزز مرئيته بمنطق يجعل موقفه أوضح في الحجة وأبين في المنع ، إذ يعتبر الموقف بصفة عامة علامة فارقة في الزمن من المفروض بداهة أنها لا تحتكم إلا للمبادئ ، ويبدو أن بين شكل الموقف وطبيعة المبدأ علاقة جدلية واضحة ، فعلى قدر سمو ورفعة المبدأ يكون نبل الموقف والعكس صحيح فحقارة الموقف من دناءة المبدأ.. وبين الاعتماد على المبدأ الذي يعبر في حقيقته عن نوع العقيدة من جهة ، وبين تجسيد الموقف عمليا بشكل كلي أو جزئي من جهة أخرى تكمن أهمية تحديد لغة الخطاب الذي من المفروض أن يتضمن ما يؤكد أو ينفي أمرا محددا بشأن موقف سابق أو لاحق حول قضية معينة ، ويحتاج العمل العسكري إلى تأييد سياسي يكسبه الشرعية ويحشد الدعم الشعبي الضروري حوله ، ويأتي مثل هذا الدور في صلب منطق يبرره ويتم التسويق له في الخطاب السياسي على النحو الذي يعززه ، وهنا يثور التساؤل مجددا عن ما مقدار الصحة التي يمكن أن تصيب كبد الحقيقة عندما يتعلق الأمر بالحديث الحائر بين العسكريين عن العلاقة الموجودة بين صرامة لغة المواقف ومناورات لغة السياسة ؟


قد تدفع الظروف المحلية أو الدولية إلى انحراف الخطاب السياسي غصبا أو طوعا عن مقصده النبيل بأن يبتعد عن غايته السامية وذلك إما بالتمويه على الصحيح من الرأي ، أو بالتعتيم على عمليات تصفية الحسابات ، أو أن يزيغ مضمونه البصر بالأوهام وتضيع معانيه البصيرة بالآمال الزائفة والوعود الكاذبة من أجل تحقيق أغراض خاصة أو لمراعاة مصالح ضيقة ، وحينها نكون في مواجهة معالم نموذج التيه السياسي الذي لا يسمح باختصار لأي كان اقتحام مناطقه المظلمة ، وهو نموذج يؤدي حتما إلى وقوع الخطأ في العمل السياسي ويؤدي تبعا لذلك إلى تناسل الأخطاء وإلى الوقوع في دائرة الشك حيث الممكن يصبح فنا يبرر النفاق في الخطاب تماما كما يبرر الإيمان بالموقف فتضيع بذلك بوصلة المنطق السياسي فيحرم العمل العسكري من فضائل تعزيزه .

                    

معالم الطريق نحو الأمن الوطني والإقليمي


    
  • صبحة بغورة
 الحديث السياسي مؤخرا عن الأمن في دول منطقة الشرق الأوسط تحديدا أصبح يتجاوز مجرد مسألة الأمن الوطني الذي يتعلق حسب المفهوم العسكري بقضايا الدفاع عن حدود الدولة أو الإستنفار لمقاومة تهديدات خارجية حاملة أهداف استعمارية أوتخفي وراءها نوايا توسعية بدعوى تعديل الحدود من خلال المطالبة بحقوق ترابية تاريخية ، أو أن يتعلق الأمر بالانتصار لقضايا خاصة بكيانات تتمسك بحقها التاريخي في العيش داخل مناطق جغرافية محددة ، كل ذلك أو بعضه تحول إلى قضية دفاع عن الوجود السياسي للدولة وعن أصالة شعبها الدالة على هويته وحضارته وثقافته المميزة مصدر إبداعه ورقيه الحضاري بكل ما تحمله هذه الأبعاد من دلالات وخصوصيات هي في حد ذاتها مقومات أساسية لكل أمة . إننا أمام مدخل آخر من مداخل فرض السيطرة الذي بات لا يهدد الأمن الوطني لدولة بعينها فحسب بقدر ما اتسع وأصبح يهدد بشكل جدي وخطير الأمن الإقليمي لمناطق تشمل دولا بكاملها خاصة إذا كانت تجمعها جملة من الخصائص المشتركة تميزها عن غيرها من الأمم مثل دول منطقة الشرق الأوسط ، نحن أمام الحديث عن محاولات جديدة لفرض مظاهر مستحدثة من "الهيمنة الناعمة " التي بالرغم من تعدد مجالاتها وتنوع أساليبها إلا أنها تتقاسم هدفا واحدا وهو سلب إرادة الآخر سلبا تدريجيا وبكل طواعية منه للتمكن من احتوائه داخليا ، الأمر أقرب إلى غزو غير معلن بمحاولات التقرب المغلفة بالمؤامرات المحبكة لإلغاء الشخصية من خلال المناورات المتعددة المجالات لتسويف مقومات هذه الشخصية تمهيدا لإضعاف قوى الأمة الداخلية الحية ومحاولة سلب سيادتها على مقدراتها لضمان ارتباطها المطلق عقائديا وثقافيا ومن ثمة تبعيتها تجاريا واقتصاديا ، ثم ولائها سياسيا ، ومن هنا تبرز أهمية التعرض لمفهوم الأمن الإقليمي من منطلق ارتباطه باعتبارات جوهرية في حياة الأمم وهي تحديد المصير والحق في الوجود.

يعتبر الغزو الثقافي من أبرز مظاهر الغزو غير المعلن وأخطرها الذي يسهل تمريره وإخفاء طبيعته المؤامراتية لأنه يستهدف من خلال أعمال أدبية تبدو خالصة ودراسات تاريخية في ظاهرها حيادية وتحليلات سياسية تدعي النزاهة المساس بالثالوثين المحيطين بحياة أي أمة ، الثالوث الأول ، مركزي وهو الذاكرة الجماعية ، الرمز التاريخي ،والوطن ، بمعنى محاولة تسويف ماضي الأمة وطمس تراثها وأمجادها وتغييبه عن وعي النشء كمفتاح سحري لتقبل محاولات التشكيك لاحقا في صدق وإخلاص الشخصيات الوطنية وتشويه مواقفها التاريخية فتفقد هذه الشخصيات مفعول رمزيتها ويخفت تألقها الشعبي فلا تذكر حتى تنسى ، ولا يبقى للوطن من ينتصر له بعدما يكون قد فقد المقومات الكفيلة بجعله البوتقة الجامعة لأبنائه تحت مظلة الهوية والأصالة ، أما الثالوث الثاني فهو لامادي ، وهمي ، يتعلق غالبا بما جرى اعتبارها من المحرمات أو المحظورات وهي الدين ،السياسة ، والجنس ، حيث الحديث عن هذه المسائل يجري من وراء الأقنعة وفي زوايا ضيقة ومعتمة ، فبعدما تم احتكار الدين بين أيدي قلة متطرفة متأثرة بالتفكير المطلق وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وبعدما أصبحت استراتيجيتها الإيديولوجية الإعلامية تعج بالتضليل وتزييف الحقائق وبالعنف الرمزي وترفض من يخالفها وتقصي من يعارضها وتقوم بالتصفية الجسدية لكل من يقف ضد نشر أفكارها ، فقد بقيت الممارسة السياسية الفعلية بيد قلة نافذة تتمسك بالعلمانية وتسيطر على مراكز اتخاذ القرار ، تؤمن بالتفكير النسبي كسبيل لتحقيق التوازنات الضرورية لضمان بقائها في السلطة ، ثم أبانت تطورات الأوضاع السياسية أن بقاء أحدهما أصبح رهين زوال الآخر ، فنشب الصراع المسلح وعانت الشعوب من ويلات النزاع الدامي الذي وضعت تطوراته المتسارعة أمن واستقرار البلاد على المحك ، وعرض انتشاره الخطير سيادة الدول للزوال ، وبقدر ديمومة المواجهة بين الفريقين بقدر ما ارتسمت ملامح نموذج الدولة الفاشلة ذات الهشاشة السياسية والتدهور الاقتصادي ، والتفكك الاجتماعي. والتردي الأخلاقي حيث تهتز القيم و المبادئ حتى يصبح الشك هو المسيطر في كل مجالات الحياة فتتعاظم فرص إضعاف الدولة وتزيد احتمالات تفككها وتتعدد سيناريوهات تقسيمها ، إنها حالات واقعية نعيش مفرداتها في العديد من دولنا العربية ونتألم لها .

 ونحاول من خلال الأفكار التالية أن نجتهد في تلمس معالم الطريق الذي يقودنا نحو تحقيق الأمن الإقليمي في دولنا النامية :
* لا سبيل للخروج من دوامة إضعاف سلطة قيادة الدول على شعوبها وحرمانها من استغلال مقدراتها سوى بجهد سياسي ــ أمني مشترك يترجم رؤية استراتيجية شاملة تضع مصلحة الشعوب هدفا أساسيا لها ، ولا تثير المنافسة السلبية الساخنة بينها تلك المنافسة التي وإن لم تكن واضحة في ظاهر الأمر إلا أنها كانت لفترة غير قصيرة مجالا واسعا لترصد الأخطاء والعثرات والتشهير بها ،ولطالما مثلت ثغرة في جدار دفاعاتنا لإشاعة الكره والبغضاء من أجل تحقيق هدف التفرقة.

* مسؤولية القيادات السياسية ثابتة ومؤكدة عن مستوى أداء أجهزة الدولة السياسية والدستورية والعسكرية وعن نتائج الجهود المبذولة من أجل إقامة دعائم العمل الوطني ، وكل ضعف أو تراجع و تقصير سواء عن قصد أو بغير قصد هو في نهاية الأمر مسؤولية هذه القيادة وهي المسؤولة عن ما يترتب على فشلها من تبعات وهي التي يجب أن تتحمل نتائجه ، ومجرد غض النظر عن هذا الاعتبار الهام يمكن أن يكون مدعاة غير مقبولة أن المسؤول عن الفشل يحسن صنعا.

* يؤدي الربط الوثيق بين تحقيق التنمية الاقتصادية بمفهوم التطوير الإداري والثقافي والاجتماعي ، وبمفهوم الجودة الشاملة إلى تحقيق هدفي الانسجام العام لأنشطة الدولة ، وانعكاس اثر جهودها بشكل مباشر وملموس على الحياة اليومية ، ذلك أن من أثر هذا الربط الإجادة الكلية في توفير المتطلبات من خلال المشاركة والتمكين التي قد تضمن بدرجة كبيرة تحسين المواصفات الفنية للمنتجات وتخفيض التكلفة وزيادة الانتاجية ، وهذا في حد ذاته من بواعث الفخر الوطني والاعتزاز الشعبي ، وتعزيز روح الانتماء والولاء .

* قد تكون من أبرز الرواسب التي شكلتها المآسي الوطنية التي عرفتها المنطقة العربية خاصة ومازالت تحدث فعلها في بعض بلداننا العربية صعوبة عودة الوئام الوطني بين الفرقاء المتنازعين الذين ينتمون للبلد الواحد بعدما عانوا ويلات المواجهات المسلحة ، أي وجود صعوبة في إعادة اللحمة الشعبية إلى سابق عهدها ،إنها مسألة تتعلق بفتنة هددت بتفكك الوحدة الوطنية ، وأصبحت عملية رأب صدعها العميق تتطلب توفر القدرة على تحمل عبء ومسؤولية بعث مشاعر الثقة وروح التسامح والاستعداد النفسي لفكرة المصالحة ، ونبذ التحفظ المقيت المحبط لآمال أمة عندما تتطلع بكل الشغف للأمن والاستقرار ، قد لا تكون الكلمات وحدها كافية لمثل هذا المسعى النبيل وإنما بالمزيد من العمل التضامني الوطني والتصور التشاركي الجاد .

من المعروف أنه لا حديث عن السياسة بعيدا عن الجغرافيا ، وأن المنطقة العربية على وجه التحديد بخصائصها الثابتة و المتميزة من حيث التاريخ والموقع وعديد القواسم المشتركة يمكنها أن تتمتع بجاذبية سياسية عندما تمثل مجموعة متماسكة من دول مسالمة ذات قوة ردع تحمل رسالة أنها تعمل على موازنة القوى إقليميا ودوليا ، ويمكنها أيضا أن تؤكد على لسان قياداتها السياسية والعسكرية أنها تتجاوز بنبل مقاصدها وسائل صناعة الخوف من تسريب الإشاعات ، وتعمد خلق أجواء الشك والتوتر ووضع الشأن العام تحت الضغط ، ونسج مؤامرات إثارة الفزاعة الأمنية ، واختلاق الأزمات الاقتصادية ، ونشر الفتنة الطائفية والنعرات العنصرية ، وإحاطة المواطنين بالمشاكل الاجتماعية والتعقيدات الحياتية والبيروقراطية المعقدة ، وأنها بهذا أرادت أن تقفز بإرادتها الحرة على مراحل الغيبوبة السياسية ومظاهر السبات الإعلامي.

إن أهمية الإدراك العميق بأن الثقافة السياسية والقوة العسكرية هما جناحا الأمة التي تحمي النفوس من التلوث ومن الرهاب الاجتماعي والترهيب السياسي إنما هما في حقيقة الأمر أيضا من أهم مقومات النجاح في تحقيق الأمن الوطني وهما من عوامل التميز الحضاري التي تتيح إمكانية حدوث الوقفة الحاسمة أمام التاريخ لتجديد العزم ،حينها يمكن أن نلمس حكمة التطور السلمي عبر المراحل وفضائل الحوار والمشاورة.

هناك حاجة ملحة إلى اتباع نهج الواقعية السياسية في التعامل مع متغيرات الواقع الأمني وتقلبات ميزان القوة العسكرية سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي ، ولعل من أهم ما يمكن أن تشمله هذه الدعوة دراسة وبحث الجدوى السياسية من السياسات العسكرية المطبقة إن كانت مثلا محدودة التأثير أو منعدمة الوجود ، أو موجهة للمواقف ، والوقوف على مقدار الأثر الذي تحدثه في كل حالة وعلى مدى مناسبته للظروف المحيطة المعاشة من حيث حجم مساهمتها في تحقيق المصالح أو حجم الأضرار التي تحدثها أو ستحدثها في حالة الاستمرار في تطبيقها .
  • بقلم الأديبة الجزائرية / صبحة بغورة