كنوز نت - بقلم : د. منعم حدّاد


أكثر الله من أمثاله...!

  • د. منعم حدّاد

 يقول المتشائمون إن الأخلاق آخذة في التدهور والاختفاء جيلاً بعد جيل، فأخلاق الأجيال الجديدة لا يمكن مقارنتها بأخلاق من الأجيال التي سبقتها بأي شكل من الأشكال، أما المتفائلون فيقولون "إن خليت خربت" ولا بدّ من استمرار الأخلاق والمزايا الحميدة أبد الدهر، وحتى وإن اهتزت الدنيا بأسرها فلن تسقط، لأن لها ربّاً يحميها ويحفظها ويصونها.
ويصف الكتاب المقدس הושע יב الكنعانيين وهم الذين يمكن اعتبارهم رواد التجارة في العالم القديم (حتى ربما قبل الفينيقيين) أي أجداد أجداد تجار اليوم بأنهم يحملون بأيديهم ميزان الخداع والتضليل والكذب.

ولكن من المستحيل والخطأ والتجني التعميم وشمل جميع من يعمل في مهنة التجارة بالخداع والتضليل، وقد نجد بينهم – وكما في كل مهنة أو حرفة – مجموعة كبيرة من النخبة والصفوة التي تتمتع بأخلاق كريمة وبنفوس أبية ورفعة وأنفة.
والربح حلال وتحلله جميع الأديان والشرائع والقوانين، شريطة أن يكون ربحاً معقولاً ومقبولاً، لا أسلوباً للإستثراء السريع والهبش واللطش ممن يكسبه الكثيرون بشق النفس وبالجهد والعرق...
ولقد حدثني صديق ثقة أثق به ثقة مطلقة بحكاية جرت معه ليس من زمن بعيد، قال:
سافرنا إلى تلك المدينة ذات يوم لنتسوق ونشتري ما نحتاج إليه، وتسوقنا في المدينة بأكملها، ولم نترك شارعاً سبق أن عرفناه إلا وزرناه، ولا ميداناً إلا وقصدناه، ولا مجمعاً تجارياً إلا وتجولنا في أرجائه...

ومالت الشمس إلى الغروب، وآذن الليل بسدول ستاره، فعدنا أدراحنا إلى بلدنا.
ولشد ما كانت مفاجئتنا عظيمة بعد ظهر اليوم التالي، إذ رنّ جرس التلفون، فتقبلنا المكالمة، وسألنا عن المتكلم، فإذا بعه يقول فلان، وينطق باسم لم يسبق لنا أن عرفناه.
أهلاً بك، قلت ، ويا مرحبا"، وانتظرت لأعرف مراده، فسألني إن كنت أنا فلان الذي يبحث عنه!
ولما أجبته بالإيجاب، سمعته يشكر الله ويمدحه على توفيقه في الوصول إلي، وفي تلك الساعة ازددت عجباً ودهشة، فعلام هذا الغريب الذي لا أعرفه يبحث عني وعندما يعثر علي يسعد وينشرح صدره؟
وما هي إلا ثوان حتى اتضح لي السر...وانجلى الغموض، إذ سرعان ما قال الرجل:
صحيح انني لا أعرفك ولا تعرفني، لكنها هي الأمانة...
فازددت دهشة وحيرة، لكنني تمالكت نفسي وانتظرته فقال:
إن المال الحرام لا يدوم، ويبدو أن مالك حلال في حلال!
الحمد لله! قلت.

والدليل يا هذا أنك مررت بدكاني يوم أمس...وسألت عن بضاعة ليست لدي، لكنك وقفت قليلاً تنظر فيما يحتوي عليه دكاني، ويبدو أنك استندت على أحد الرفوف، وسقطت حافظة نقودك من يدك هناك من يدك، وظلت على الرفّ...ولم تفطن لها...
ودهشت من كلام الرجل، فأنا في العادة حريص الحرص كله على أشيائي، ولا أذكر أنني فقدت شيئاً يوماً، لكنني سألته:
وكيف عرفت أنها حافظة نقودي؟
قال الرجل: من بطاقة هويتك التي تحفظها في الحافظة، وفيها أيضاً عنوانك ورقم تلفونك، ولقد وجدتها هذا الصباح على الرف، أثناء ترتيب بعض البضائع...
شكرت الرجل ووعدت أن أزوره بعد أيام لآخذ المحفظة.
ومرت الأيام وكرت، وقمت بزيارة تلك المدينة، كعادتي من حين لآخر، وكم كنت متلهفاً للتعرف على ذلك التاجر الأمين الذي قلّ أمثاله في هذا الزمن الرديء.

ولما وصلت متجره استقبلني هاشّاً باشاً وكأنني صديق قديم بل شقيق له، وبعد أن قدم من واجبات الضيافة ما استطاع، قام إلى خزانة في متجره وعاد يحمل المحفظة بيده.
أستحلفك أن تفحص كل ما في المحفظة والتأكد من أنني لم آخذ منها شيئاً...
وأنا أستحلفك ألا تعيد هذا الكلام، فلولا أمانتك و"أدمنتك" ووفائك وأخلاقك النبيلة الكريمة الرفيعة لما كنت بحثت عني واتصلت بي ولكنت قد أخفيت المحفظة وأنكرتها حتى لو سألتك عنها، خاصة وأني لم أكن أذكر أنني فقدتها.

حاولت أن أقدم للرجل شيئاً تقديراً واحتراماً وتكريماً له على وفائه وإنسانيته، فحلف وأقسم أن هذا لن يحدث...
قمت لأشتري بعض السلع من دكانه، فأصرّ ألا يبيعني لأنه سيرى في ذلك تعويضاً له على وفائه وإخلاصه!

لكنني قدمت له ما لا يعدله مال: رجوته أن يقبل بي صديقاً بل أخاً مدى العمر وعلى طول الزمان...
وحلفنا وتعهدنا على الأخوة الصادقة...على مدى العمر والزمان، وحتى أنه رفض أن أنشر هذا الخبر على الملأ، فعمل الخير جزء لا يتجزّأ من كيانه، وفضيلة توصي بها الديانات كافة...
جزاه الله خيراً وأكثر من أمثاله...