كنوز نت - د. منعم حدّاد

عن الأدب الشعبي


كثيراً ما نسمع أو نقرأ أن فلاناً أو علاناً أبدع أو ألّف في الأدب الشعبي أو في التراث الشعبي، وأصدر إبداعه أو عرضه أو نشره وما إلى ذلك من تعابير أخرى مختلفة.

والواقع أن مثل هذا الكلام لهو تجنٍّ واضح وصريح على الأدب الشعبي والتراث الشعبي، لأن هذا "الإبداع" هو حصيلة ما تفتّقت عنه قريحة أحدهم في زمان ما في مكان ما، وكما يجمع الباحثون، فأيّة مادة شعبية أو عامية لم يقصد مؤلفوها أو مبدعوها الأولون الإبداع أو التأليف لغرض الإبداع أو التأليف، ولم يقوموا بذلك عن قصد أو سبق إصرار...، بل كانوا عندها يحاولون التعبير عن شعور قوي يكتنفهم، أو عن إحساس يحسّون به، أو يلخّصون تجربة حياتية مرّوا بها، أو يخبرون خبر حدث هام أو غير هام عاصروه، فتتفتّق قرائحهم عمّا يوحي لهم به فكرهم، فيعبّرون عمّا يختلج في نفوسهم على مرأى - والأهمّ - على مسمع من الناس.

ويسمع السامعون هذه المادة، فإذا لاقت استحساناً في قلوبهم وأفئدتهم حفظوها عن ظهر قلب واختزنوها في ذاكرتهم، وهكذا قد "تذهب" أو "تصبح" مثلاً كما يقولون.

وتظلّ المادة مختزنة في الذاكرة إلى أن يصادف السامعون ظرفاً جديداً مشابهاً للظرف الذي سمعوا فيه الحكاية أو المادة، فيذكّر هذا الظرف السامعين بما مضى، وتطفو على سطح الذاكرة تلك القصة القديمة أو الحكاية القديمة التي ذهبت مثلاً، فيروونها من جديد، ويتحولون بذلك إلى رواة أو إلى حلقة إضافية من سلسلة رواة لا عدّ ولا حصر لحلقاتها.

وقد تتشابك سلاسل الرواة على مرّ العصور، حيث أن الروايات تهاجر وتنتقل من بلد لآخر بوسائل مختلفة، مثل التبادل التجاري والسفر ورحلات القوافل، أو حتى في الغزو والحروب والفتوحات، ومن الجائز أيضاً أن تنشأ روايات متشابهة بل حتى متطابقة في بقاع مختلفة من الأرض في أزمنة مختلفة لأن ثمّ قواعد مشتركة بين بني البشر، وتقوم عليها ردود فعل متشابه وحتى متطابقة، لأن الجائع على سبيل المثل يبحث عن الطعام مهما كان انتماؤه ودينه وقوميته، والمريض يبحث عن الدواء والشفاء والعلاج، والخائف عن الطمأنينة، كائناً من كان.

ومما لا يشكّ فيه أحد أن لكلّ راوٍ طريقته وأسلوبه في الرواية، ففي شخصه يتنازع عاملان، فهو يرغب من جهة في المحافظة على أمانة النقل والرواية، ومن الجهة الأخرى كلّ واحد هو مبدع، في داخله موهبة وقدرة على الخلق والإبداع، لذا فعلى الغالب عندما يروي المرء قصة أو حكاية فإنه يبدع أو يخلق حكاية جديدة، تشتمل على نفس المضمون الرئيسي أو الفكرة الرئيسية لكنها تختلف عن روايات كل الرواة الآخرين في التفاصيل.

أي أن القصة الرئيسية نفسها يرويها كل راوٍ على طريقته الخاصّة، ويضيف إليها وبشكل عفوي ما استطاع من إرثه الثقافي ومخزونه الحضاري، وهكذا نستطيع أن نشير إلى عشرات ومئات الروايات المختلفة لقصة معينة بعينها، ومثل هذه الحكايات تكون في العادة مرتبطة بأعلام بارزين وبشخصيات أسطورية أو تاريخية، أو حتى خيالية ووهمية، فالحكايات المنسوبة مثلاً إلى جحا لا عدّ ولا حصر لها، ومثلها الحكايات التي ينسبها البعض في العصر الحالي إلى "غوار الطوشة" أو سواه، والتي لا صلة بينها وبين صاحب تلك الشخصية في الواقع، بل يطلقها أفراد مختلفون وينسبونها لجحا أو لغوار.

ويرى أساطين المنهج التاريخي الجغرافي (الفنلندي) في دراسة الأدب الشعبي أن عدد الروايات المختلفة لنفس الحكاية أو القصة يشتمل على نمط واحد كامل ومتكامل، وعلى محاكاة باهتة ذات مستوى متدنّ من الرواية للنمط الرئيسي المتكامل.

أما أساطين المنهج الشكلاني (الفورماليزم) فيرون أن كلّ رواية هي بمثابة إبداع آخر جديد.

أما في المثل الشعبي والمثل العامي فالوضع مختلف تماماً، إذ لا مجال لاختلاف الروايات، فالمثل برمّته قول قصير موجز وجيز لا يتعدى في الغالب كونه جملة واحدة فقط، طالت أو قصرت، ومن المحتمل جدّاً أن تتفتّق قرائح أناس مختلفين في أماكن جغرافية متباعدة وأزمنة مختلفة عن أمثال متشابهة جدّاً بسبب التشابه في التفكير بين بني البشر.

ويمتاز المثل العامي – شأنه شأن بقية أشكال التعبير في الأدب الشعبي – بقدرته الهائلة على الرمزية، وعلى التلميح بدلاً من التصريح، وها هي على سبيل المثال مجموعة قصص الحيوان الأكثر شهرة عالمياً "كليلة ودمنة" ليست سوى قصص رمزية في أساسها.

ويلجأ الأدب الشعبي عامّة إلى الإغراق في الرمزية أحياناً لأكثر من سبب، منها تجنّب الاصطدام بأرباب السلطة – السياسية في العادة – حيث أن الجزء الأكبر من الأدب لم يحفل على مرّ العصور إلا بطبقة الملوك والخلفاء والأمراء والحكّام والأرستقراطية فجاء الأدب الشعبي على عكس ذلك ليعبّر عن الشعب لا عن الحكام: أدباً شعبياً صادقاً محتجّاً صارخاً في وجه البطش والظلم والاستبداد!

ولأنه على هذا المنوال فسيوصل أصحابه حتماً إلى نهاية لن يحسدهم أحد عليها لو صرّحوا بمكنونات نفوسهم، لذا فهم يغرقون في الرمزية، معتمدين على ذكاء المتلقّين معتبرين كلّاً منهم لبيباً يفهم بالإشارة والإيماءة ليغوصوا في أعماق تفكيرهم وليقفوا على ما يقصدونه ويرمون إليه فيما يحكون ويروون!