كنوز نت - كتب الدكتور سمير محمد ايوب


لِمَ نُحِبُّ ؟! عشوائيات في الحب – الثانية 


إنها تباشير الشتاءِ في قريةِ الحِمَّةِ حيث كنا في الصباح ، غيمٌ عاقرٌ ، صوتُ رعدٍ في البعيد صداه ، ووميضُ برقٍ ذابلٍ . بعدَ شاي الغداء المبكر ، قالت هيا بِنا إلى أعماقِ هذه الأرض ، عَلَّنا نجدُ فيها رُكناً لا يتوقفُ فيه المطر ، ولا ينضب منه عطرُ التراب . إتّجهنا الى الجنوب من اربد ، باتجاه مدينة جرش ، حيث الطابع اليوناني ما زال يعانق الروماني بانسجام . عبر اشجارها الكثيفة ، دلفنا بوابة جرش الشمالية ، مرورا بشارع الأعمدة ، إلى سبيل الحوريات ونوافيرِه . ومن هناك إلى المدرج الشمالي ، حيث تقام فعاليات مهرجان جرش كلَّ عامٍ . غمسنا أوجهنا في تراتيلِ مطرٍ نشِطٍ ، كطفلينِ راقصنا زخاتَه . ومنْ ثمَّ لاهثين جلسنا نرقبُها ، وننصتُ لصوتِها ، وهي تغسلُ المدرجات الحجرية من حولنا .

وهي تحاولُ بيديها ، لَمْلَمَةَ شعرها وتجفيفَ وجهها ، إلتفتت إليَّ مُرافِقتي الرَّبْداويَّة ، وأكمَلَت أسئلتَها التي ابتَدأتْها قبلَ الظُّهرِ في قريةِ الحِمَّة : يا شيخنا ، يقولون أنَّ الحبَّ ليلُ الحياةِ الجميلة . وأنَّ الحياةَ بلا حُبٍّ ، أضيق منْ أن تكونَ حِصناً أو ملاذاً ، نؤوبُ إليه من قسوةِ نهارٍ طويل . ولكنْي بداية ، دعني أسألك ما الحب في الأساس ؟

أهوَ طائرُ النعيمِ المُقيم ، دربُ مِنْ مرُّوا إلى الزواج ، أو بابٌ خلفيٌّ للتَّفَلُّتِ مِنهُ ومِنْ مٌقتضياتِه ومِنْ تَبعاته ؟ أهوَغيتو مُحاصِر ؟ موجُ شكٍّ يُعانقُ موجَ ظنٍّ ، هَبَّاتُ غيرةٍ وقلقٍ ، أم ألف أوٍّ وَأوْ؟

قلت وأنا أُحاولُ إعادةَ ترتيبِ هِندامي : ألحبُّ رزقٌ مُشتركٌ حلالٌ . الشريك فيه أمانة ٌ تُصانُ ولا تُهان . إنَّه طُمأنينة تَعشقُ الجنونَ وغيابَ العقل . مشاعرٌ حيّةٌ مُستبدَّة ٌ، تتلفعُ بعقلٍ بلا قلب ، أو بقلبٍ بلا عقل . إنّه نظامُ حياةٍ مُتكاملٍ ، وليسَ سوقاً ننتقي منه ما يعجبنا . نظامٌ متقدٌ له مصفوفةٌ أخلاقٍ ، يمتلكُ عشراتَ الحواسِّ السيادية الكامنة ، يقتضي إيقاظُها وإنطاقُها بفصاحةٍ ، والعيشَ فيها ، مهاراتٌ مُستدامة تجعلُ كلَّ شيءٍ في الحبِّ مُمكنا ، وتُبقي فضاءاتَه بخير .

سالَت وهي تناولني فنجان قهوتي : لِم نُحبُّ في الأساس ؟

قلت بعد أن تناولت اول رشفة من قهوتي الحجازية مع حبة تمر عراقي : كلَّما ضاقت بنا الطُّرقات ، وضِقنا ذرعا بصمتٍ غيرَ مألوفٍ ، وصقيعٍ غيرَ أنيسٍ نتسولُ فيه دفئا ، يكون الحبُّ فسحة أمل تُريحُنا من وجع الغربة ، تُمكنُّنا منِ امتلاك عصا موسى ، للتسلل إلى رياضِ وطنٍ آمنٍ يقيم بين كتفي شريك ، أو في صدره . نتسلّلُ لنُطَوِّقَهُ ونستفزَّ كلَّ تضاريسه ، ولتُبقينا تلك العصا وراءَ سواتره ، نُعيد به من هناك ، هندسة كل إيقاع مشترك .

إنْ جاءَ وأبكرَ ، وضرَبَتْكُم زلازِلُه ، أومسَّتْكُم أعاصيرُه ، قِفوا على أبواب قلوبكم وانظروا ، لا تعانِدوا ما قد تجدوه بدواخلها . أحبّوا ولا تتلفَّتوا إلى حيرة الظن ووساوسِ القلق ، ولا تقهروا أنفسكم بالتنبيش عن أسباب ومنطقٍ وتعليلٍ وتبريرٍ وتحليلٍ وتفاسير . فليسَ لَكم في الحبِّ يداً ، عكس الرحيل الذي لكم فيه الفُ سببٍ وسبَب . ففي القلب ما لايوجد في العقل . المحبَّة لا تُؤخذ من كتابٍ ، إنّما تُشرقُ مِنْ قلبٍ وتفيضُ على قلب . عندما تُحبّوا خُذوا قراراتِكُم بقلوبكم ولا تبالوا كثيرا بالعقل . فَجُلُّ العقولِ تُجارُ مصالحٍ مادّية . فكروا بهدوء قبل الحب . فإن جاء ، أقبِلوا بكلِّ ما فيكم منْ جنونٍ حَنون . فهو صدقةٌ جاريةٌ ، أدّوها أكثرَ مِما ينبغي ، وفوق ما تَحتملون .


قالت وهي تدور حول نفسها واقفة : كيف نفكك أبجدياته ؟

قلت : الحب قبائل وعشائر ، له أبجديات منطوقة متناسلة ومتشظية . تلد كلٌّ منها أشباهها. لا تخبئوا الكلام عن المشاعر ، قولوها باي لهجة ، ولو لَمْسا أو إشارة كالعُميِ أو كالخُرس ، فلن يرِثَها بعدَكم أحد ولا يَصح عليها وقف . ولا تؤجّلوا رسائلكم فقد تتغيرُ العناوين .

ولكن ، تذكّروا أن مئات الكلمات وأفصحها ، لن تُجيدَ وحدها صياغة مشاعر القلب ولهفته . الحب الذي لا يأخذكم إلى جنونٍ لمْ تَعهدوه مِن قبل ، إستقيلوا منه ، فهو أبكمٌ لا يَحكي وإن نَطَق أو تأتأ . إستقيموا واعتدلوا في كلّ شيءٍ إلا في الحبِّ ، فتمادوا .
قالت وقد عادت الى مجلسها : ولكنَّ العقل والقلب متشاكسان .

قلت : هنا ، لا تسألوا مُجربا ولا خبيرا ، إعتصموا بما أوتِيتُم منْ حِكمةٍ فِطرية وبِما اكتسبتُم من مهاراتٍ مُستدامة ، لتُنْصِتوا لهما معا . لا تَخشوا منَ الخطأ . عِيشوا بِهما بلا مُحقِّقين ، وبلا قضاة أو وعَّاظ أو سجّانين . فالحب إن مسَّ قلوباً ألهمها نورها وتقواها ، وأوْقَدَ نارَها وهَداها .
قالت وهي تقف قبالتي : ولكن ، وقد تأتي أيام يكون التنفس فيها بحبٍّ بطولةٌ بحدِّ ذاتِها . يا شيخنا ، ما العمل إنِ احترقَ شيءٌ في القلب وتباعدت الطرق أو خانَ الشراعُ ؟!

ساعتَها ، حاصرتُ خدِّيَ الأيمن بأصابع يدي ، وقلتُ وأنا أحاول الوقوف : هيا بنا يا سيدتي ، ولندع جوابي حكايةَ العشوائية القادمة ان شاء الله .

( ملحوظة : لوحة النص للصديقة الفنانة التشكيلية شروق العبكي ).