كنوز نت -  جدعون ليفي و أليكس ليبك | هآرتس، 4.10.2019 ترجمة: أمين خير الدين



بعد أن أطلقَ الجنودُ النار على عينيه، أُخْبِر الصيّاد من غزّة بأنه لن يرى النور بعد اليوم



مرّت سبعة أشهر على إطلاق جنود سلاح البحريّة النارّ على الصيّاد خضر سعيدي من غزّة وبعد أن سببوا له عمى البصر، سمحت له إسرائيل الأسبوع الماضي بعد رفْضٍ متكرّر، بالمجيء للفحص في إسرائيل. ولم تكن عند الأطباء بشائر جيدة

خضر وعائلته في مشفى وولفسون، الأسبوع الماضي، قال له أطباء في مشفى الفاطميّة في القاهرة إنه ليس لديهم أيُّ علاج ليقترحوه عليه لإنقاذ عينه الأُخْرى تصوير: أليكس ليبك
       
خرجت انتصار من الغرفة تبكي. خضر، إبنها، يجرونه خلفها بوجه باهت، يمسك بيدها. لم يكن من الصعب تخمين ما سمعوا في غرفة الأطِبّاء -- بكاؤها الصامت قال كلّ شيء
     
طوال الليلة الماضية لم يغمض لخضر جفن، كان مضطربا جدّا في انتظار لقائه مع الأطباء الإسرائيليين، اللقاء الذي انتظره شهورا طويلة. الآن، بعد اللقاء اسودّ عالمه عليه، أكثر ممّا كان. تلاشت احتمالات أن يرى في السنوات القريبة القادمة وتبخرت بقايا آماله. ربما بعد سنوات، هذا ما قال له الأطباء، يُبْتَكَرعلاج جديد يمكّنُه من إعادة بصره، وحتى ذلك الوقت حُكم عليه بالعمى.
خضر في وولفسون، الأس
خضر في وولفسون، الأسبوع االماضي. أمه مقتنعة أن الجنود أرادوا قتله تصوير:أليكس ليبك

 جنود سلاح البحريّة هم مَن حكم عليه بالعمى. أطلقوا عليه حوالي 15 رصاصة معدنيّة مغلّفة بالمطّاط، أُطْلِقَت جميعها على وجهه وعلى النصف العلوي من جسمه، وحسب شهادته، بعد أن تجاوز حدود الصيد المسموح به في غزّة حسب ادِّعائهم. كان ذلك في ال- 20 من فبراير/شباط من هذه السنة، وذلك في ساعات المساء. كان خضر عندئذ على الحسكة – قارب الصيد الخاص به - مع ابن عمّه، محمد سعيدي. اابن 31 سنة، خضر منذ كان عمره 13 سنة وهو في البحر، يعيل عائلته من الصيد. خرجا إلى الصيد في الثالثة والنصف ظهرا إلى بحر خان يونس وألقَيا شباكهما. خططا أن يعودا في منتصف الليل، لم يعرف احد أنه سيكون الإبحار الأخير لخضر.
    
في التاسعة والنصف شَعَرا أنهما مُحاطَان بقوارب مطّاطيّة تابعة لسلاح البحريّة ألإسرائيلية، على كل قارب 12 جنديّا مُقنعا. والسفينة ألأمّ تراقب أعمال بطولتهم.
خضر في وولفسون، الأسبوع الماضي. "حياته تغيّرت منذ إصابته" هذا ما تقوله أمّهُ تصوير : أليكس ليبك
   

يقول خضر أنهما كانا على بُعْد تسعة أميال بحريّة عن الشاطئ، وأنه كان المجال المسموح به في ذلك اليوم 12 ميلا -- ولكن ما الفرق. مجرّد رؤيتهما الجنود ترك أبنا العمومة شِباكهم في البحر وهربا طلبا للنجاة بقاربهم باتجاه الشرق، عودة إلى شاطئ خان يونس. لحق بهم الجنود وأخذوا يمطِرونهما بالرصاص المعدني المُغلّف بالمطّاط، الرصاص القاتل عن مسافات قصيرة، وكانت المسافة قصيرة جدا، تقريبا كانت تقترب من الصفر. أصابت إحدى الرصاصات العين اليُمْنى لخضر وفتكت بها وبالعين الثانية. شَعَر أنه فقد بصره. كان آخر ما رآه الجنود الذين سبّبوا له العمى. لا يتذكر وجوههم، لأنهم كانوا مُقنعين، ولأنهم كانوا في العتمة. بعد ذلك خطفوه وخطفوا قاربه إلى ميناء أشدود. ونُقِل من هناك إلى مستشفى برزيلاي في أشكلون، وفي المستشفى اضطرّ الأطبّاء إلى اقتلاع عينه اليُمْنى. لم يكن مصير العين الثانية معروفا لهم، أوحى له الأطباء في برزيلاي أنه يمْكِن إنقاذها.

ممنوع من الدخول

     
بعد مغادرته للمُسْتشفى وعودته إلى غزّة، طُلِب للفحص في 13 مارس/ آذار، لكن مديريّة التنسيق والارتباط رفضوا السماح له بدخول إسرائيل. فعُين له دور آخر، في 15 مايو/ أيّار، ومرة ثانية لم يُسمَح له بالدخول إلى إسرائيل. فسافر مع محنته إلى مصر برفقة أمّه عن طريق معبر رفح، وهناك في مستشفى الفاطمية في القاهرة قال له الأطِبّاء ليس لديمهم ما يقترحونه لعلاج عينه الأُخرى. ربما يكون في إسرائيل علاج آخر.
     
 تحدّثنا معه في منتصف يونيو/حزيران بواسطة ألسكايب. ونشرت حكاية الصيّاد ألذي فقد بصره بسبب إطلاق الجنود النار عليه. كان خضر يجلس على سريره، يلبس فانيلا بيضاء، عيناه تتجوّلان في الظلمة، متّكِئا على الحائط غير المُقَصور في بيته المُكْتَظّ في مُخيّم الشاطئ. كان المنظر مفجعا. وقد سأل في آخر المحادثة بصوت واهٍ: "هل يُسْمَح لي بالعودة إلى إسرائيل، لإنقاذ عيني الأُخْرى؟"
   
البروفسور دان تيرنر/ نائب مدير المركز الطبي شعاري تسيدك في أورشليم ومدير قسم الجهاز الهضمي (الغاسترو) للأطفال، المُقيم في مُسْتوطنة كفار أدوميم، قرر بعد قراءة التقرير الصحفي أن يعمل ما باستطاعته كي يُحْضِر خضر إلى إسرائيل، ليتحقق ذا كان بالإمكان إنقاذ بصر عينه الأُخْرى. تيرنر المتطوع في جمعيّة أطبّاء لحقوق الإنسان، لم ييأس من الرفض المتكرر الذي تلقّاه من مديريّة التنسيق والارتباط. وحسب أقواله، وجد هناك مَن يُصْغي لطلبه. لكن حقيقة أن خضر كان مُعتقلا مرّة بتهمة اجتياز الخط المُحدّد في بحر خان يونس، وأُدين بالحبس 14 شهرا أمضاها في سجن نَفْحا، إضافة إلى كَوْنه قد جُرِح برصاص جيش الدفاع الإسرائيلي وربّما يتحوّل إلى مخرّب يتوق للانتقام، رغم عماه، تحول إلى ممنوع من الدخول
     
 أدْلَتْ الناطقة بلسان وِحْدَة تنسيق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلّة لجريدة "هآرتس" بالتصريح الذي لا يُصدّق: "طلبه لا يستوفي الشروط اللازمة لخروج مرْضى من غزّة ليتلقّي علاجا طبّيّا... حالته الصحيّة لا تشكّل خطرا على حياته وبعكس الادّعاء - وهي لأغراض الفحص فقط وليس للعلاج".
   
 البروفسور تيرنر لم ييأس. اتّصل مع الطبيب الذي يعالج سعيدي من غزّة، وأخذ الملفّ الطبّي من برزيلاي وتوجه المرّة بعد الأُخْرى. ثلاث أو أربع مرّات رفضوا في مديرية التنسيق والارتباط السماح بدخول الصيّاد الضرير. لكن تيرنر لم ييأس. وبمعيّة مركّزة توجّهات جمعيّة أطباء لحقوق الإنسان، إنتصار خروب، استطاع أن يحصل في نهاية الأمر على تصريح دخول إلى إسرائيل. دكتور جايكوب ووكسمان، ابن أخِ تيرنر، أخصائي في قسم العينين في مستشفى وولفسون، ساهم في ا لحصول على الدعوة وتعيين الدور. وهكذا دُعي خضر سعيدي الأسبوع الماضي للمستوصف في مستشفى وولفسون.
 يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي وفي ساعات الصباح الباكر قام مُحقق منظمة بتسيلم في غزّة، محمد صباح، بمُرافقة سعيدي وأمّه من بيتهما في مخيم الشاطئ إلى حاجز إيرز. سعيدي، نذكّر، أعمى. خلال أسابيع لم يكلِّفوا أنفسهم في مديرية التنسيق والارتباط بالردّ على طلب السماح لأمه بمرافقته للفحص في إسرائيل. ومع ذلك حضر سعيدي مع أمّه إلى إيرز – لم يكن لديه خيار آخر -- ولكن لم يُسْمَح لأمّه بالعبور. بإمكان الأعمى أن يجد طريقه من غزّة إلى حولون بدون مُرافق. مرّة ثانية اشتغلت التلفونات من تيرنر وخروب لكل العالم. حتى حُلت هذه المُشْكِلةُ. وبعد مرور ساعات عبرت الأمّ وابنُها حاجز إيرز.
   
 متطوّعون من جمعية "الطريق إلى الشفاء"، وهم متطوّعون ينقلون مرضى فلسطينيين من الحواجز انتظروا كي ينقلوا سعيدي إلى مستشفى وولفسون، كثيرون منهم تركوا الحاجز مع مريض آخر، بسبب التأخير الطويل لأجل الحصول على تصريح للأمّ، ممّا اضطر جمعيّة أطباء لحقوق المرضى أن يستأجروا سيّارة أجْرة لتأخذ خضر وأمّه إلى المستشفى. وقد وصل الإثنان لى المستشفى في ساعات الظهر الأولى متوترين ومُضْطَربين، حيث قابلناهما هناك.
   
انتصار خروب ساعدت الأم، إنتصار سعيدي، عند خروجها من غرفة الفحص. اسودّت دنياها عليها. دكتور إيتمار يشورون، أخصائي بمعالجة الشبكيّات، وجه حُزما من الضوء على عين خضر الأُخرى لكنه لم يكن ثمّة ردّ فعل أبداً. كانت النتيجة واضحةً.ارتدى خضر ملابس جديدة، حلق شعر رأسه وحلق دقنه وانتظر الفحص المصيري في إسرائيل. "ليس هناك مثل أمي"، عندما خرج من غرفة الفحص ابتسم بارتباك إلى فراغ الرواق. مدلينا، امرأة من بات يام كانت تنتظر دورها في الرواق وقد سمعت المحادثة، أخرجت من حقيبة يدها بعض الأرغفة مع الزعتر وقدمتها لخضر ولأمّه. "كانا في الشوارع وقتا طويلا. ليأكلا شيئا، مادام الخبز طريّا". يبدوا أن هذه البادرة هزت مشاعرهما. كانت والدة خضر تلبس الاسود، مسحت دموعها. إحذر من جسم مشبوه"، هذا ما كُتِب على لوحة في المستشفى ، كانت مُعلّقة فوق رأس ابنها.

من الفَرْشَة إلى السرير

منذ أُصيبَ، لم يغادر خضر البيت. "مُحاصر بأربعة جدران"، هذا ما تقوله أمّه، وتروي إنه أحيانا تنتابه موجات غضب شديد. قطع علاقاته مع أصحابه، يجلس معظم ساعات اليوم مشدوها بسريره. "أعيش من الفرشة إلى السرير"، هذا ما يقوله. كنتَ في البحر مُنْذ جُرِحْتَ؟ ما لي في البحر لأعمله"؟ يردّ على نفسه، صادر الجنود قاربه. أعادوه بعد شهر بلا مُحرك أو قُطَعٍ أخرى، حسب أقوال خضر، تساوي، حوالي 7.000 دولار. " الأخشاب بقيت فقط من القارب، وهي مرميّة على الشاطئ ." تتدحرج الآن على شاطئ خان يونس، كقارب لا قيمة له.
     
 محموله القديم لا يكفّ عن الرنّ. الأصدقاء والأقارب من غزّة يريدون معرفة ما قاله الأطبّاء." "No Current Treatment Available".. العلاج غير متوفّر الآن، هذا ما كتبه دكتور ووكسمان في خلاصة زيارته، وأضاف: "ربما يتوفّر العلاج في المستقبل، ربما بعد خمس سنوات". خضر مّدْعوٌ لفحص آخر بعد سنتَيْن، وحتى ذلك الوقت سيعيش في ظُلمة.
   
 انتصار تساعد ابنها فتُجْلِسُه على الكرسيّ، يبدو الآن وكأنه يُذْرِف دمعة. عين زُجاجية بدل العين التي اقْتُلِعَت. " تغيّرت حياته منذ اُصيب" هذا ما تقوله الأمّ، "ليس عنده نهار أو ليل. كان إنسانا هادئا وسعيدا مع عائلته فتحوّل إلى إنسان عصبيّ. تحطّمَت حياته نهائيّا" أعال خضر 14 إنسانا من الصيد: والديه، زوجته، ثلاثة أبنائه وبعض إخوته. ما هو شعورك الآن؟ "نهائيا، سأبقى داخل أربعة جدران إلى الأبد. كان لدي بعض أملٍ. واحد بالمئة. وكان أملي أن أرى أبنائي. ليس أكثر من ذلك. لم أطلب أكثر مما ينبغي. لم أطلب أن أخرج لأعمل أو أتَرزّق، فقط أن أرى أبنائي".
  
 يسكن في غرفة واحدة مع زوجته وأبنائهما الثلاثة، في بيت العائلة الواسع. تخفض الأمّ صوتها كي لا يسمع وتقول: "أحيانا أذهب لأعمل في تنظيف بيوت أناس آخرين، وبسبب الوضع الذي نعيشه يعطوني قليلا من النقود" ماذا تشعر عندما تكون في إسرائيل؟ يضحك خضر. " نفس الشيء. نفس الشيء أينما كنتُ. لا أرى شيئا، وأيضا عندما سافرت إلى مصر كان نفس الشي. نفس الشيء أينما كنتُ".
    
 أمّه مُقْتنعة أن الجنود أرادوا قَتْلَه لكن مشيئة الله تدخّلت ومنعت موتَه. حاول الانتحار قبل ثلاثة أسابيع. هذا ما روته أمّه. كسر مرآة البيت وحاول أن يقطع نفسه بشظاياها. بقيت آثار الجروح في يده. منذ تلك المحاولة لا يتركه أبناء العائلة وحده يراقبونه ليلا ونهارا. عندما عاد من إسرائيل بعد إصابته كان الجميع مقتنعين أن عينا واحدة قد أُصيبت، وعندما اتضحت الحقيقة أصيب الجميع بصدمة.
   
 "ما هو احتمال أن تُعْرَفَ قصته للعالم؟" هذا ما تسأل عنه أمّه، ويبقى سؤالها معلّقا في فراغ رواق المستشفى في حولون، "من فضلك إروِ قصة خضر للعالم، ليعرفوا". ثمّ يغادران ببطء إلى سيارة الأجرة التي ستنقلهم لغزة المُحاصرة والسجينة – الأم وابنها المتشبِّث بيدها، يتلمّس طريقه في الظلام.
7.10.2019