
كنوز نت - بقلم: سليم السعدي
الهوية الممزقة
بقلم: سليم السعدي
منذ أن وطئت قدمُ الاستعمار أرضًا من أراضي العرب، كان يحملُ معه قاعدةً واحدة: "فرّق تسُد". يبدأ بالهوية، يهزّ جذورها: الوطنية أولًا، ثم الدينية، فالتراثية، يليها التعليم، فاللغة، فالصحة والعمل… يشتّت الإنسان من الداخل، ويكسر بنيته النفسية قبل أن يمدّ يده على أرضه أو موارده.
وهكذا بدأ مشوار أحزان الشعب الفلسطيني، الشعب العربي الأصيل الذي رغم كل ما مرّ به، لم يتخلَّ عن مبادئه، بل حاول بكل ما استطاع أن يتمسك بما تبقى من ملامحه، حتى لو كان التمسك بالأوجاع نفسها.
لكنّ الاحتلال لم يكتفِ بسرقة الأرض، بل عمل على تفكيك الإنسان الفلسطيني من داخله. دخلنا، رويدًا رويدًا، في حالة من تمزّق الهوية، صراع داخليّ لا يستطيع أعظم الدكاترة والبروفيسورية تحليل أبعاده.
جسدٌ متقلّب: تارةً نراه حزمة واحدة، وتارةً أخرى أشلاء متفرقة.
ولغةٌ هجينة: عربية مُحمّلة بمفردات عبرية تُقال تحت ذريعة: “ماشي الحال”.
ومظهرٌ يتبدّل: بدلة رسمية لمناسبة معينة، وملابس رياضية لأخرى، وغالبًا نتشابه – دون أن نشعر – مع شكل المحتل أكثر ممّا نتشبّه بتراثنا.
أما الأغاني، فصارت على الماشي…
وأصبحت الهواتف الذكية ملاذًا يغرق فيه شبابنا: تشات، توكتوك، جروبات…
حتى الروابط العائلية تآكلت؛ أخٌ لا يعرف أخاه، وصديق لا يسأل صديقه، وزوجات ضائعات من قلة الاهتمام، وطلاقٌ على كلمة، وخلافٌ على تفصيل تافه.
جرائم العنف والقتل والابتزاز لم تتوقف. المدارس لم تسلم.
الخوف يرافقك في الشارع وكأنك تعيش داخل غابة، لا بل أسوأ… غابة بلا أسد.
وإن وُجد الأسد، لعنّاه واتهمناه لأنه حاول أن يقول كلمة حق أو ينهض بكرامة قومه.
ثم جاءت "موضة" النصب والاحتيال: “خلّص بكرا بجبلك مصرياتك”…
وأصبح التعري تنافسًا: من يخلع أكثر؟
لا نعني فقط تعري الأجساد، بل تعرّي الأخلاق والدين والقيم؛ أشياء لم نكن نسمع عنها يومًا.
وانشغلنا بالصراع على المناصب:
من يحكم؟
من يترأس؟
من يُسيطر؟
ووسط هذه الفوضى، نسينا الهوية… صرنا نرى الهوية الخضراء والهوية الزرقاء، وننتظر لونًا ثالثًا قد يأتينا غدًا.
لم يعد للكبير احترام، ولا لرجل الدين هيبة، حتى اللحية أصبحت مظهرًا لا معنى له.
زمان… كان الجار يحمي جاره ويحفظ بيته.
اليوم الجار يركّب كاميرات خوفًا من أن يطلق أحد عليه النار.
ضاع الأمان، وضاعت معه الهوية.
تركنا قبّ الزمان، والطربوش، والكنادرة الخليلية، والعقال…
رميناها في زوايا النسيان، وكأنها لا قيمة لها.
وبين شمعون وافي وباروخ ويحزقيل وزيف وعوفر، تتلاطم هويتنا في بحرٍ من التيه، لا يعرف أين يرسو ولا كيف يعود.
فماذا ننتظر؟
هل نظلّ مهملين في هويتنا؟
مضيّعين أولادنا؟
هادمين بيوتنا بأيدينا؟
هل نترك الهوية منسية حتى يأتي "صاحب الزمان" ليحررنا ويعيد إلينا رزمة هوية مشدودة برباط وطن حقيقي لا يقبل أن يبقى بلا اسم ولا انتماء؟
الهوية ليست بطاقة ولا لونًا من ألوان “الشباك”…
الهوية روح، إن ضاعت ضاع الإنسان.
17/11/2025 07:33 am 59
.jpg)
.jpg)