كنوز نت - بقلم: رانية مرجية



العائدون من الموت إلى الحياة: شهادات الروح حين تتجلّى

بقلم: رانية مرجية

أحيانًا لا يحتاج الإنسان إلى نعشٍ كي يموت، ولا إلى معجزة كي يعود.
بين الموت والحياة، ثمّة لحظة، يرى فيها البعض الحقيقة، ثم يعودون… لا كما ذهبوا، بل وقد خلعوا عن أرواحهم ظلال الغفلة، وعادوا أنقياء كأنهم وُلِدوا من جديد.

في هذا الشرق المنهك، حيث يمرّ الموت قرب النوافذ، ويهمس في آذاننا بلغةٍ نعرفها، يكون للعائدين من الموت صوت آخر:
صوتٌ لا ينطق بالعجائب، بل بالحكمة.
من الدروز، من المسلمين، من المسيحيين، من هذا الفسيفساء الذي نحيا فيه، جمعتُ هذه القصص — لا لأرويها فقط، بل لأتأملها معكم: هل الحياة حقًا تبدأ بعد الموت؟

1. عائد من الجبل: حكمة الشيخ الدروزي
(من الجليل الأعلى)

في مساء بارد، جلس الشيخ نائل قرب الموقد يتأمل جمرةً حمراء، كأنّه يرى فيها عمره كلّه.
فجأة، سكنت عيناه، وسكن الجسد.

ثلاثة أيام وهو بين الحياة والغياب.
وفي اليوم الرابع، فتح عينيه وقال:
"كنت واقفًا بين جبلين، نور من خلفي، وصمت أمامي. سمعت صوتًا يقول: لم يحن الوقت... عد."

عاد، لكن ليس كما كان.
لم يعد يرفع صوته في المجالس، ولا يُبدي رأيًا إلا همسًا.
تنازل عن زعامة المشيخة، وقال لحفيده:
"الموت ليس غريبًا، بل صديق صامت... يُخبرك أن تبدأ من جديد."

2. صلاة من حنجرة راهبة
(من بيت لحم)

ماريا، راهبة صامتة صارمة، عُرفت بانضباطها في الدير أكثر من دفئها.
في خريفٍ بعيد، أصيبت بنزيف دماغي، ودخلت غيبوبة لأيام.
ظنّ الجميع أن رحيلها بات قريبًا.

لكنها عادت، وبدلًا من الصمت، غنّت.
رنّ صوتها بأول ترنيمة طفولية نسيتها منذ عقود:
"السلام لكِ يا مريم، يا أمّ الرجاء..."

قالت لاحقًا:
"كنت في حقل زيتون. يسوع كان هناك. لم يتكلم. ابتسم فقط، وأشار إلى السماء. فهمتُ: غنّي، فالغناء صلاة أخرى."

ومنذ ذلك اليوم، صار صمتها موسيقى.

3. حكواتي من نور: الصوفي الذي ابتسم للموت
(من يافا)

عبد السلام، صوفيّ بسيط، يروي الحكايات في مقهى شعبي، في ليالي رمضان.

ذات مساء، وهو يحكي عن لقاء موسى والخضر، انقطع صوته وسقط مغشيًا عليه.

غاب ليلتين.
وعاد، حالمًا، ساكنًا، مبلّلًا بدموع لا تشبه الحزن.

قال:
"كنت أمشي في صحراء بيضاء، خالية من الصوت، إلا من دعاءٍ كنتُ أظنه نسيته. سمعت أمي المتوفاة تهمس: عد… ما زال فيك حكاية لم تُروَ."

ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يحكي عن الملوك أو الحروب.
صار يحكي عن الله في أرغفة الفقراء، وعن الرحمة في يد امرأة تُطعِم قطّة.
كان إذا صمت، بكت المدينة من خشوعها.

4. ولادة من موت: حين أنقذ الجنين أمّه
(من الرملة)

هالة، في شهرها التاسع، صعدت الحافلة بعد زيارة لعيادة في اللد.
نزفت فجأة وسقطت ممددة، والركّاب يعتقدون أنها فقدت حياتها.

حين وصلت إلى الطوارئ، كانت فاقدة للوعي، دون نبض واضح.
لكن الجنين... تحرّك.
أجرى الأطباء عملية عاجلة، فصرخ الطفل لحظة ولادته — وبتلك الصرخة، بدأ قلب هالة ينبض من جديد.

حين استعادت وعيها، قالت:
"كلّ ما سمعته هو صوت يشبه أمي حين كانت توقظني لصلاة الفجر: قومي، الحياة تناديك."

وسمّت طفلها "نجا"، لأنه نجا بها، ونجت به.

5. الغفران الأخير: كاهن ينقذ روحه
(من الناصرة)

الأب جورج حمل في قلبه وجعًا خفيًّا.
في شبابه، طرد شابًا مثليًا من الكنيسة، ظنًّا منه أن الطهارة تُقاس بالشكليات.
لكن حين داهمته نوبة قلبية، رأى نفسه أمام المذبح...
ورأى الشاب ذاته يبتسم ويقول:
"ليتك علمت أن الله لا يطرد أحدًا."

عاد الكاهن وقد غفر لنفسه.
وفي عظته الأولى، قال:
"كلنا بحاجة إلى مغفرة، لكن لا أحد يُعطينا إياها إن لم نعطِها لأنفسنا أولًا."

تغيّر صوته، ومضى نحو شيخوخةٍ يغسلها الحبّ.

في الختام: العائدون الحقيقيون

ليس كل من نجا من الموت عاد حقًا.
البعض يعود كما كان، وبعضهم لا يعود أبدًا…
لكن العائدين الحقيقيين، هم الذين رأوا ظلّهم على جدار الغياب، فأدركوا أن الحياة أقصر من الكراهية، وأطول من الغضب.

هم الذين يهمسون لنا بلا كلمات:
عِش كما لو أنك وُلدت الآن. سامح كما لو أن قلبك جديد. وامضِ… كما لو أن الموت ما زال خلفك بخطوة.