
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
أذهب إلى المقبرة كل يوم… لأنني لا أجدني بين الأحياء
بقلم: رانية مرجية
لا تسألوني إن كان ما أفعله “صحيًا”…
فمن قال إن الحياة في هذا العالم “صحية” أصلًا؟
أذهب إلى المقبرة كل يوم، لا لأنني أبحث عنهم بين شواهد الرخام، بل لأنني، ببساطة، لا أجدني بين الأحياء.
هناك، بين القبور، تتنفس روحي قليلًا.
أجلس على حافة الغياب، أتأمل الغياب.
أحادث من صمتوا عن الضجيج، وأصغي جيدًا لمن لم يعودوا ملزمين بالكلام.
أنتم تقيسون الزمن بالساعات، وأنا أقيسه بعدد الزهور الذابلة على القبر.
أنتم تسألون عن الصحة النفسية، وأنا أسأل: ما جدوى نفس بلا من تحب؟
أنتم تنصحونني بالخروج، بالضحك، بالاختلاط… وأنا لم أعد أثق كثيرًا بمن يضحكون علنًا ويكتمون خيباتهم في صدورهم كقنابل موقوتة.
في المقبرة، لا أحد يطلب مني أن أكون “قوية”، ولا أحد يوبخني إن بكيت.
هناك، يليق بي ضعفي.
هناك، لا أحتاج أن أشرح شيئًا… فكل حجرٍ يحفظ سرًّا، وكل ظلٍ يعترف بما لم يُقل.
أزورهم، وهم لا يشتكون.
أبكي، ولا يحرجني أحد.
أجلس طويلًا، وأعرف أن لا أحد سينصرف من الملل أو يُحدّق في ساعته.
أحيانًا أظنني أهرب منكم إليهم.
من مدينةٍ فقدت كل ملامحها إلى مقبرة تحتفظ بجلالها وصمتها وصدقها.
من بشرٍ يبدّلون وجوههم كما يبدّلون هواتفهم، إلى أناس رحلوا بوجوههم الصافية كما هي، دون تنقيح أو فلاتر.
نعم، أذهب إلى المقبرة كل يوم.
ليس لأنني مهووسة بالموت، بل لأنني أبحث عن الحياة التي سرقها مني الموت.
عن صوت أمي الذي كنت أظنه ضجيجًا حين كانت تصرخ عليّ…
عن لمسة أبي حين كان يضع يده على كتفي دون أن يقول شيئًا…
عن ضحكة لم أقدّرها… عن عتاب لم أسمعه… عن وداع لم أتهيأ له.
وإن كنتم تظنون أنني لم أُشفَ بعد، فأنتم على حق.
أنا لست بخير.
لكنني لست وحدي، فهناك آلاف مثلنا، يبتسمون في النهار، ويبكون مع الغروب، ثم يتسللون خلسة إلى المقابر كمن يعود إلى بيته الحقيقي.
صدقوني، في هذا العالم المتكسر، المقابر ليست الأكثر حزنًا…
بل هي الأكثر صدقًا، والأكثر وفاءً.
09/06/2025 09:00 am 20