كنوز نت - بواسطة : حسن عبادي 



عندما يُحرّرنا الحُبّ :

 إضاءة / كتاب رسائل كسرت القيد لأسامة الأشقر
                                           
  • صفاء أبو خضرة/ إربد
من قالَ إن السّجنَ فقط هو قضبان حديدية، وجندي يغلق الزنزانة وفي جيوبه قنابل وعلى كتفه رشاشٌ جاهزٌ للإطلاق..؟
من قالَ إنّ الحرية تُقاس بمساحة ضئيلة مُعتمة..قد يعبرها الضوء على استحياء من ثقب في الجدار يدّعون أنهُ نافذة؟
السجن الحقيقي ينبع من داخل المرء، أن تكون مهزوماً ومستسلماً وغير قابل ومقبل على الحياة..أن تكون جسداً هشّاً يتحرّك بإشارة من الآخرين، ولا يشعر سوى بوخز الألم والوحدة والقهر..

إنهُ الحب يا سادة..

البعد الآخر الذي يعيشهُ الأسير وسطَ كلّ تلك العتمة، بعداً يمنحهُ جناحين لهما القدرة لا على التحليق فقط، بل الخروج من أي بقعة مهما كانت محكمة ولن يقدر عليها احتلال ولا سواه..

في كتابه (رسائل كسرت القيد)..

نعم يا أسامة" الرصاص لا يقتل الأرواح الحرة" كما قال والدك، وكذلك الحب، يُهذب الروح ويطيل عمرها بل يخلّدها، يحسن مسكَنها ويؤنسُ وحدتها..

في رسالتك إلى منار قلت (لم أترك أسئلة أو فكرة أو حتى مكيدة إلا خطرت على بالي، قارنتكِ بكل مخلوقات الله الجميلة ورسمتكِ في مخيلتي آلاف المرات، وفي كل مرة أعجز عن الوصول إليكِ، أبدأ من جديد لأتعرف إلى تفاصيلك وصورتكِ وطول قامتكِ، وبما أن المعتقل أعدّه المحتل ليقتل أرواحنا وقلوبنا وذاكرتنا ...) ص23، تكمن عظمة الحبّ بتلاقي الأرواح أوّلاً، فهو يُحيكُ المؤامرات، ويطلقُ فِخاخهُ ليصطاد قلبين ليتآلفا بعيداً عن الماديات والملموسات..فأن تسكن روحكَ صوتاً سمعتهُ هذا هو الحب، وأن تشتاق لمن لم ترها عينك هذا هو الحب، أن تكسر قاعدة الزمن لتخلق لكما زمناً خاصاً بكما، وتغير بوصلة الأمكنة فتؤرخ لكما اتجاهات جديدة هذا هو الحب..

أسامة ومنار..

كتبَ أسامة رسائل كثيرة، إلى أبيه وأمه إلى حبيبته منار إلى البحر والى سنبلة حملها طائر فكانت له أنيساً في ظلمته، وفي كلّ رسالة يوجّه رسالة أخرى للقارئ فليست رسائله مجرد هذيان، وليست محاكاة للآخر في وحدته، وليست تفريغاً لمكنونات تؤرقه، إنما هديراً واضحاً وجلياً، فأن يُحاكي سنبلة يثني عليها لأنها تمنحهُ رغيفاً وفي الاتجاه الآخر يخبرها أنهم في اتجاهات أخرى يلقون فيها إلى القمامة فقال في ص 31: (...فنحن لا نستطيع ولا نجرؤ على حصادكِ إلا بعدما ننحني لك ولهيبتك التي نستشعرها في كل صباح ومع كل كسرة خبز تسند قوامنا، مع ذلك فنحن نعلم سيدتي بأن منا من يتجرأ عليكِ ويلقي بك بعد الطعام في القمامة، ونحن نعلم أيضا أن فينا من يلقيكِ في البحر خوفا على مصالحه ومكانته، ونعلم أكثر أن هناك كثيرا من أبناء البشر لا يقدرون وجودك في حياتنا...)، يمنحنا أسامة الأشقر حفراً في بواطن الأشياء فكانت بذلك أكثر منها رسائل، ويلقي مصباحهُ المضيء على نعم لا يقدّرها إلا من حرمَ منها، وكأنهُ يقول لنا "في الفقدان نعرف قيمة الأشياء" ففي العطش نقدّر الماء، وفي البرد نقدّر الشمس، وفي الحرّ نقدّر حبّات البرد التي كسرت زجاج نوافذنا..إنها النعم التي يحظى بها الكثيرون ويسقطونَ عليها كفرهم بها..

يحرص أسامة على مخاطبة المخلوقات الكونية، يُحاكيها في رسائله كأنها من لحمٍ ودم، وتجلسُ قبالته، إمّا أن يُعاتبها كما عاتب الشمس في إحدى رسائله عندما كان يقبع في سجن جلبوع وقد أطلق عليه "المكعب الاسمنتي "وبدا لي من رسالتهِ تلك إنه كانَ يُعاني من سقمٍ ما عندما ذكرها بأنها الشافية فهي التي تروي الأرض والأجساد والعوالم لتنهض بأشعتها من أسقامها، كان يعاتبها عتاب الحبيب، وعتاب المتولّه، وعتاب العاشق، لكنهُ في الوقت ذاته يطلب منها الرحمة، فهو في زنزانته تلك محدودة المساحة والتي لا يدخلها الهواء ولا نسمة واحدة منه يعاني من شدة الحرّ، وكلما اشتاقت الشمس أحرقت من حولها المشتاق، فهو لا يرى منها الضوء الذي يحب ولكنهُ وزملاءه في الأسر يحترقون بحرارتها وكأنهُ في لجةِ رحمتها تحوّلت سخونتها إلى غضب..

كما نجد في هذه الرسائل ثقافة مغايرة للأسير الحر أسامة الأشقر، فهو لم يكتب للطبيعة ولا للسماء ولا للحب ولا للأصدقاء فقط، لكنهُ حاورَ وخاطب في رسائله شخصيات معروفة، فحاور حاتم الطائي وبثّ لهُ شكواه من بذخ رؤوس الدول بينما شعوبهم جائعة وفقيرة وتُحيك بها المجاعات والأمراض وخاطب ماسلو عالم النفس الأمريكي وبثّ له أخبار الخطف والقتل وتجارة أعضاء البشر لصالح الشركات الكبرى التي تحولت إلى حيتان متوحشة لا تأبه للبشرية، وعن المشردين وقد صارت أسفل الجسور مسكنهم وملاذهم يحيطهم الفقر والبؤس وعن أطنان المتفجرات التي تلقى على الآمنين فتلقيهم هشيماً..حاور جابتونكسي قيادي في الحركة الصهوينة وقد راهن في رسالته أن الاحتلال الى زوال لا محالة فقال " (فجدارك الذي راهنت عليه قد تهاوى ونحن لم نعد نرى له أثرا الآن...)..

حديثنا مع أسامة في رسائل كسرت القيد طويلة ولا تُمل، فحدّث أصدقاء وكتاب وأدباء وغيرهم وراسلهم من كلّ حدبٍ وصوب، منهم من يعرفه من قبل ومنهم لم يسبق أن التقاهم وجهاً لوجه لكنه التقاهم في رسائله كأنه يعرفهم وكانَ له معهم ذكريات و"عيش وملح"، فكسر بكلّ ذلك القيود والحواجز، في نهاية إضاءتي أتمنى لأسامة الأشقر كما لجميع أسرانا الحرية وأن تلتقي الأجساد بالأرواح دون قيود..تحية لمنار الشجاعة التي لم يردعها المؤبد عن الاعتصام بحبل الحب..