كنوز نت - نابلس
نابلس القديمة : معقل المقاومة وملاذهم وحاضنتهم الشعبية
نابلس – "القدس" دوت كوم - عماد سعادة – لا تزال بذرة المقاومة التي زرعها الشهيد ياسر عرفات ورفاقه منذ نحو 56 عامًا في قلب بلدة نابلس، تنمو وتزهر، وما زال "حوش العطعوط"، درة حي الياسمينة، الذي بدأ منه القائد ترتيب أوراق الثورة بعد هزيمة الـ67، ينبض عزة وعنفوانا وكرامة، وما زال الشهداء يتوالون، وكلما ذبلت "ياسمينة" نمت مكانها أخريات.
فمن قلب البلدة القديمة ذات الأحواش الضيقة والبنايات المتلاصقة، بدأ عرفات، سرًا، وبعد هزيمة حرب الـ67، بجمع الرجال من حوله، وبناء الخلايا المسلحة لمقاومة الاحتلال والتحضير للثورة، التي ستشق طريقها لاحقًا وسط حقول من الألغام، وتشهد حالات من المد والجزر، ويكمل عرفات المسار، ويعود إليها علنًا عام 1994، بعد اتفاقية سلام، وإن كان لا زال يرتدي بزته العسكرية.
ويقول مراقبون ومؤرخون بأن الحديث عن نابلس القديمة في ظل الثورة المعاصرة، لا يلغي التاريخ النضالي لها عبر التاريخ، واستحقاقها للقب "جبل النار"، كيف لا وهي من أقدم بلدات ومدن التاريخ، ووريثة الحضارات الكنعانية، واليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، ومعقل الثورات والثائرين ضد الغزاة والمستعمرين، وآخرهم الانتداب البريطاني ومن بعده الاحتلال، الذي لا يزال جاثما فوق صدورنا حتى اليوم.
بعد احتلال نابلس عام 1967، تحولت البلدة القديمة إلى مركز للأنشطة المناهضة للاحتلال، ومنها خرجت خلايا مقاومة، وفيها ارتقى شهداء، ولنا من الأمثلة على الشهيدة شادية أبو غزالة التي استشهدت بتاريخ 27 تشرين ثاني عام 1968 لتكون أول شهيدة في فلسطين بعد احتلال عام 1967، وكذلك الشهيدة لينا النابلسي التي استشهدت في 16 أيار 1976.
ومع بداية اندلاع الانتفاضة الأولى بتاريخ 12 أيلول 1987، أصبحت بلدة نابلس القديمة، بؤرة النضال والنشاط الوطني والجماهيري، فمنها تنطلق المسيرات وإليها تعود، ومنها تبدأ عملية توزيع مناشير القيادة الوطنية الموحدة، وفيها تعقد الاجتماعات وتتخذ القرارات، وفيها أيضًا تم افتتاح المراكز الطبية لاسعاف الجرحى وتطبيب المرضى، وفي وقت لاحق أيضًا تشكلت وانطلقت داخل البلدة القديمة، المجموعات والخلايا المسلحة وعلى رأسها "الفهد الأسود" وهي إحدى المجموعات العسكرية التابعة لحركة فتح والتي أسسها ناصر البوز قبل اختفائه في ظروف غامضة عام 1989، وظهور اسمه ضمن قائمة شهداء مقابر الأرقام الذين سلمهم الاحتلال عام 2012، والتي قادها من بعده عدد من النشطاء مثل عماد الناصر، وعمر عرفات وهاني تيم الذين استشهدوا لاحقًا في عملية اغتيال نفذتها القوات الخاصة الإسرائيلية بينما كانوا داخل صالون حلاقة في أحد أحياء البلدة. وكانت هناك أيضًا مجموعة النسر الأحمر احدى المجموعات العسكرية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأسسها أيمن الرزة الذي استشهد عام 1989. وعملت المجموعتان "الفهد الأسود" و"النسر الأحمر" انطلاقًا من البلدة القديمة وأصبح لهما فروع على امتداد الوطن، وقد أخذت المجموعتان على عاتقهما مقاومة الاحتلال وملاحقة عملائه وتصفيتهم.
وبعد قدوم السلطة الوطنية عام 1994 بعد توقيع اتفاق "أوسلو"، انتهى دور المجموعات المسلحة في البلدة القديمة، وتم دمج العديد من عناصرها في الأجهزة الأمنية، فيما توقف النشاط العلني للآخرين.
وقاد تنصل الاحتلال من تنفيذ اتفاقيات "أوسلو"، واستمرار ممارساته القمعية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني إلى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وفيها تحولت بلدة نابلس القديمة إلى كابوس حقيقي للاحتلال، وباتت، مرة أخرى الحاضنة الرئيسية للمجموعات الفلسطينية المسلحة التي حملت مسميات جديدة، ككتائب شهداء الأقصى، الجناح المسلح لحركة "فتح"، وكتائب عز الدين القسام الجناح المسلح لحركة "حماس"، وكتائب "الشهيد أبو علي مصطفى" الجناح المسلح للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، و"سرايا القدس" الجناح المسلح للجهاد الإسلامي، و"كتائب المقاومة الوطنية" الجناح المسلح للجبهة الديمقراطية، إلى جانب مجموعات أخرى. وبدأت هذه المجموعات بتنفيذ الهجمات المسلحة ضد جنود الاحتلال والمستوطنين وتم تنفيذ عمليات نوعية داخل المستوطنات، لدرجة أن هذه المستوطنات تحولت إلى أماكن مهجورة خوفًا من رصاص المقاومة، وانتقلت هذه المجموعات إلى تنفيذ العمليات الفدائية التفجيرية في العمق الإسرائيلي، وكانت معظم هذه العمليات الموجعة يجري التخطيط لها في عمق البلدة القديمة التي وصفها الاحتلال مرارًا بانها "عش الدبابير".
وفرض الاحتلال حصارا قاس على المدن الفلسطينية وفي مقدمتها نابلس، وفي ربيع 2002 اجتاحت الدبابات الإسرائيلية مدن الضفة الغربية ، وفي مقدمتها نابلس، ضمن ما عرف آنذاك بعملية "السور الواقي"، واستهدف الاحتلال بلدة نابلس القديمة وأمعن فيها قصفًا وتدميرًا وتخريبًا باستخدام الطائرات والدبابات، فهدم مئات المنازل ومنشآت اقتصادية مثل مصانع الصابون والمشاغل والمعامل المختلفة، ودمر مساجد وحمامات تركية وأماكن اثرية مختلفة، إلى جانب تخريب شبكات المياه والكهرباء والهاتف، وخاض المقاومون من شتى الفصائل ملحمة بطولية ارتقى خلالها عشرات الشهداء، إلى جانب مئات الجرحى والمعتقلين.
أنهى الاحتلال عمليته في نابلس القديمة ظنًا منه أن نار مقاومتها قد خمدت، وأنها لن تقوم لها قائمة مرة أخرى، ليفاجأ باستمرار العمليات الفدائية في العمق الإسرائيلي انطلاقًا من البلدة القديمة، الـمر الذي دفعه ‘لى تنفيذ عشرات الاجتياحات للبلدة القديمة وفرض منع التجول عليها لفترات طويلة وتنفيذ حملات تفتيش من منزل لمنزل عبر اختراق الجدران الملاصقة، وقد ارتقى خلال هذه العمليات عشرات الشهداء، والكل يذكر شهداء النفق الذين ارتقوا خلال هذه الاجتياحات، وعلى رأسهم الشهيد القائد العام لكتائب شهداء الأقصى، نايف أبو شرخ ورفاقه، وكذلك استشهاد، في معارك أخرى، العديد من قادة كتائب القسام، وقادة كتائب أبو علي مصطفى والفصائل الأخرى، إلى جانب اعتقال مئات النشطاء.
وبعد انتهاء انتفاضة الأقصى، والضغوط التي مورست من قبل الاحتلال وكذلك من قبل السلطة لحل الأجنحة المسلحة وتسوية أوضاع عشرات أو مئات المسلحين عبر دمجهم في الأجهزة الأمنية بذريعة انهاء الفلتان الأمني، وإعطاء فرصة للحل السياسي، قاد ذلك إلى مرحلة من الهدوء الأمني، وهو ما استغله المستوطنون لقلب المعادلة، فتحولوا هم إلى موقع الهجوم ونحن إلى موقع الدفاع، وأصبح مستوطن واحد بسلاحه يغلق شارعًا في عمق الضفة ويمنع الفلسطينيين من المرور عبره، أو تمنع ثلة من المستوطنين قرية بأكملها من قطف زيتونها أو حصاد قمحها، بينما تتسلل مجموعة أخرى من المستوطنين إلى قرية فتحرق منزلا بمن فيه كما حصل مع شهداء عائلة دوابشة. فيما بات اقتحام المسجد الأقصى من قبل المستوطنين عملاً استفزازيًا يوميًا، وكذلك اقتحام "قبر يوسف" في عمق مدينة نابلس لا هدف منه إلا استفزاز أهل المدينة.
هذا الظلم وهذا الشعور بالغبن والظلم والاستفزاز، قاد مجموعة من الشباب اليافعين في بلدة نابلس القديمة هذه الأيام، إلى مربع المقاومة مجددًا، فظهرت مجموعة "عرين الأسود" التي نفذت عمليات نوعية ضد الاحتلال واكتسبت دعمًا شعبيًا جارفا، كونها شكلت حالة وحدوية فريدة في النضال الوطني الفلسطيني، ولم تتبع فصيلاً بحد ذاته، وبذلك اقتربت من مزاج الناس الذين وصلوا حد القرف من الانقسام في الساحة الفلسطينية ومن مراوغات أطراف الانقسام ووعودها الكاذبة المتكررة بطي هذه الصفحة.
رسالة "عرين الأسود" وصلت لكل فلسطيني بأن وأد الانقسام والمضي في الوحدة لا بد أن يبدأ من هنا من ساحات الميدان ومن قلب نابلس القديمة، وليس من عواصم الدول الأخرى كالقاهرة والرياض وبيروت والجزائر.
ويقول محللون بأن الاحتلال قد وجد "في عرين الأسود" فكرة خطيرة جدًا، يمكن أن تمتد إلى باقي أنحاء الضفة الغربية، ما يشكل تهديدًا حقيقيًا للاستيطان الذي دفع الاحتلال بكل امكانياته لتجذيره خلال السنوات الأخيرة وفق خطة لتحويل الضفة إلى كنتونات والحيلولة مستقبلا دون قيام دولة فلسطينية متصلة الجغرافيا.
ومن هذا المنطلق فإن الاحتلال يسابق الزمن ويُسخر اليوم كل امكانياته العسكرية والتكنولوجية للقضاء على هذه المجموعة قبل فوات الأوان سواء عبر الاعتقال أو الاغتيال، وما حصل في الفترة من اغتيالات لقادة وعناصر عرين الأسود في بلدة نابلس القديمة والذين كان آخرهم قائد المجموعة، وديع الحوح، ومن قبله تامر الكيلاني، وإبراهيم النابلسي، وإسلام صبح، والعزيزي، وأبو صالح، والدخيل والشيشاني والمبسلط، وغيرهم إنما يعكس الإصرار الإسرائيلي على اجتثاث المجموعة بشكل سريع.
ويرى كثيرون بأن "حوش العطعوط" الذي انطلق منه النضال قبل 57 عاما، وعاد الاحتلال قبل أيام ليدمره ويغتال من فيه من مقاومين، سيبقى ذاته "حوش العطعوط" ورمزا للكرامة والعزة الفلسطينية، ويؤكدون أن "عرين الأسود" تحولت إلى فكرة والفكرة تتمدد ولا تحتضر.
28/10/2022 10:44 pm 485