كان على الصحفي يوسف الكرنز أن يفقد رجله كي يتمكن من الخروج من غزّة


الكرنز، 19 سنة، شارك في المظاهرة الأولى في غزة مسلحا بكاميرا وجلس على بُعْد 750 مترا عن الجدار الحدودي. 

أطلق النار عليه جندي فأصابه برجله اليسرى وعندما حاول النهوض، أُطْلِقت النار عليه فأصيب برجله اليُمْنى. وفقط بعد بتر رجله، فرضت محكمة العدل العليا على الدولة أن تسمح له بالانتقال إلى المستشفى في رام الله لإنقاذ رجله الثانية.

جدعون ليفي و أليكس ليبك هآرتس، 26.4.2018 ترجمة: أمين خير الدين 

  
بُتِرت رجله اليسرى في مستشفى الشفاء في غزة. ويحاولون الآن إنقاذ رجله اليُمنى في المستشفى الاستشاري في رام الله. مرّ أكثر من أسبوعين بين بتر الرجل الأولى، وربما كان بالإمكان إنقاذها، وبين محاولة إنقاذ رجله الثانية، خلال هذا الوقت الثمين الذي رفضت إسرائيل السماح فيه بعبور أول مُصاب بجرح خطير في الاحتجاج في غزّة – يوسف خرونز، الطالب جامعي ابن أل- 19 من المخيّم الفلسطيني البريج – إلى المستشفى في رام الله. محكمة العدل العليا هي التي فرضت على وزارة الدفاع ذلك.

    
أصابه برجله اليسرى جندي من جيش الدفاع الإسرائيلي. وأصابه برجله اليُمنى جندي آخر، عندما حاول خرونز الجريح النهوض عن الأرض الرملية، وهو ينزف جرّاء الإصابة برصاصة برجله اليُسرى. فقط ثوانٍ قليلة فصلت بين الرصاصتين اللتين أُطْلِقتا عليه، يقول الكرنز أن الرصاصتين اللتين أصابتاه ودمّرتا حياته جاءتاه من اتجاهين مختلفَيْن. أي أنّ، جنديين قد أطلقا النار عليه، حين كان على بُعْد 750 مترا عن الجدار، مسلّحا بكاميراته، يلبس ثوبا واقيا مكتوبا عليه "صحافة"، يحاول توثيق إطلاق النار غير المتوقّف والصادر عن قنّاصة جيش الدفاع الإسرائيلي على المتظاهرين غير المسلّحين من غزّة. 

يقول إنه بعد أن جُرِح شاهد حوله كثيرين يسقطون وهم ينزفون على الأرض الرمليّة، "يسقطون كالعصافير". كان هذا يوم الجمعة، 30 آذار. يوم الأرض، في اليوم الأول من مسيرة العودة مقابل الجدار في غزّة.
     
الآن يرقد في المستشفى الاستشاري في قرية سردا، شمالي رام الله. مستشفى خاص، كبير، فاخر من الدرجة الأولى، يرقد خرونز في غرفة خاصّة واسعة مضاءة على سرير موجّه، فيها جهاز تلفزيون، جدران خشبيّة ومنظر خلاّب. لم تسمح إسرائيل لأحد من أبناء عائلته بمرافقته لمساعدته، باستثناء جدّه، محمد الكرنز، شيخ مُسنّ عمره85 سنة، وقد احتاج بعد أيّام لأن يسافر إلى أقاربه ليرتاح عندهم في مخيّم اللاجئين البعيد العروب. 

الكرنز المبتور، يعاني من آلام شديدة في قدمه وفي رِجْلِه المتبقيّة، يساعده الآن ابن عمّه بتفان لا حدود له، غسان. لم يلتقيا في الماضي أبدا. ككل الشباب في غزة تقريبا، خرونز لم يخرج خارج حدود القطاع في حياته. الآن كسر هذا الطوق وخرج لكن بدون رِجْل.

   
الآن هو طالب سنة أولى في موضوع الإعلام والعلاقات العامّة في جامعة الأزهر في غزّة، ابن لعائلة أصلها من الفالوجة. يتلقى والده راتبه كشرطي من السلطة الفلسطينيّة. كان نشيطا في الهيئات الاجتماعيّة وقدّم تقارير عن الوضع في غزة. اشترى قبل عدة شهور كاميرا من نوع كانون 5D بمبلغ 5000 دولار، نصف المبلغ من توفيره الخاص والنصف الآخر من أبيه. 

وبدأ يعمل كمصوّر في وكالة الإعلام المحليّة في مخيّم البريج. كان الصحفي الأول الذي أصيب في شهر المظاهرات هذا، ومن المؤكّد أنه لن يكون الأخير. كان قد تعرّف على الصحفي ياسر مُرْتجى الذي أطلق النار عليه جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي فقتله،
   
يوم الجمعة، 30 مارس، خرج الكرنز من بيته وسار مشيا حوالي كيلومتر ونصف إلى موقع المظاهرات مقابل الجدار الحدودي، كي يصوّر المظاهرات لوكالة الأنباء، أدّى صلاة اللظهر في خيمة الصحفيين التي اقامها المنظمون، وبعد ذلك قسّم أل – 25 صحفيا محليّا مواقع المظاهرات بينهم. كان الجو متوتّرا جدا، كما يقول، وتوقع الجميع إصابات كثيرة. 

هل اعتقدتم أن جيش الدفاع الإسرائيلي سيطلق رصاصا حيّاا؟ "جيش الدفاع الإسرائيلي دائما يطلق الرصاص الحي" يقول ذلك بألم. هو مُدلَّل، بالرغم من حالته، يُكْثِر من النظر بالمرآة أو في كاميرا المحمول، ليُحَسِّن من تمشيطة شعره المُصمّمة.
   
بعد انتهاء الصلاة بدأ الشباب بإحراق العجلات المطاطيّة. لافتات التوجيه التي أقامها المنظمون كانت توجه إلى المنافع وإلى الخيام المختلفة، وأيضا كانت تبيّن البُعْد عن الجدار في كل نقطة وُضِعَت بها. ومنها عرف الكرنز انه على بُعْد 750 مترا عن الجدار الحدودي. في اليوم السابق ألُقى جيش الدفاع الإسرائيلي على مخيم جباليا مناشير، قال فيها إن من يقترب من الجدار لغاية 300 مترا يُعرض حياته للخطر. وتعلّموا من تجاربهم، في غزة كيف يتعاملون مع مثل هذه التحذيرات بجديّة تامّة.  

وقد فصل المنظمون بين منطقة خضراء، مسموح، ومنطقة حمراء، ممنوع وخطر. كان خرونز بعيدا مئات الأمتار عن حدّ المنطقة الحمراء.
   

في الساعة الثانية ظهرا بدأ التوتر بالازدياد. وبدأ جيش الدفاع الإسرائيلي بإطلاق الغازات على المتظاهرين، أخذ الشباب بالاقتراب لمسافة مائة متر من الجدار وإلقاء الحجارة على الجنود. مع أنهم استعملوا المقاليع، إلاّ أنّهم كانوا أبعد من أن يصيبوا الجنود، القريبين من الجدار. يقول الكرنز إنه رأى مقابله عشرات من الجنود في الجانب الآخر من الجدار، ورأى ثلاث سيّارات جيب عسكريّة وسبطانة (ماسورة) مدفع لمدرعة استقرّت خلف أَكَمَة ترابيّة. وضع بجانبه مِنْصَب ثلاثي الأرجل ووضع عليه الكاميرا، أزداد إطلاق الغازات، أطلق الجنود الغازات بتواصل وانتشر في الجو غمام غازي لَزِج وحارق جدّا. نقلت الريح الغاز نحوَه. دافع المتظاهرون عن أنفسهم بالبصل. استطاع أن يصوّر 950 صورة.

   
في الساعة الثالثة نظر بساعته. كان من المقرر أن يُقام في المخيم حفل زفاف صديقه، بلال عزاره، وفكّر أن عليه أن يعود للبيت، ليحلق ويغيّر ملابسه. جمع الكرنز الكاميره، والمِنْصَب الثلاثي وحقائبه ونهض من مكانه. يقول إنه في اللحظة التي قام بها أصابته الرصاصة الأولى. لم يسمع شيئا، لكنه شعر بألم شديد يخترق رِجْلَه، ووقعت الكاميرا من يديه. وقع على الأرض لكنه حاول النهوض فورا. وعندئذ جاءته الرصاصة الثانيّة. الأولى أصابته على بُعْد 5 سنتيمترات تحت رُكْبَته اليسرى، والثانية على بُعْد سبعة سنتيمترات تحت ركبته اليُمنى. عندئذ لم يستطع الوقوف. 

حاول أن يصرخ طلبا للمساعدة، لكن صوته خانه. يقول إنه شعر بأن تيارا كهربائيا يسري بجسمه وبإنه مشلول، لسانه لم تُطِعْه. على بعد أمتار منه وقف شاب من جيله، أحمد ألبحار، كان يعمل مساعدا لأحد المصوّرين. أسرع إليه البحار وحاول ن يرفعه بيديه. في نفس الوقت أطلق الجنود النار وأُصيب البحار برجله أيضا. فوقع على الأرض ينزف.
      
دخل إلى الغرفة أبناء عائلة الطفل عبد الرحمن نوفل البعيدين، وقد قُطِعت رِجْله في غزّة وأدْخِل لنفس المستشفى، واحد من الجرحى الأربعة التي سمحت لهم إسرائيل بالانتقال إلى هنا، أربعة من حوالي 1500 جريح في المظاهرات حتى الآن. أقارب نوفل في الضفة الغربية غزّاويون أصلا، جاءوا ليطمئنوا عن حالة الطفل ابن أل – 11 سنة يرقد في الغرفة وبجانبه جدّه المُسنّ – الوحيد الذي سُمِح له بمرافقته.
   
حمل الشباب الجريحَيْن، الكرنز وصديقه الذي حاول إنقاذه، إلى سيارة الإسعاف الوحيدة التي كانت قريبة. امتلأت سيارة الإسعاف بسرعة بستة جرحى، يستلقون الواحد بجانب الآخر. كانت حالة خرونز الأصعب. واصل الجنود بإطلاق الغازات، شعر خرونز بأنه سيختنق داخل سيارة الإسعاف. وضع له المضمّد قناع أوكسجين، لكن بسبب الازدحام في سيارة الإسعاف لم يستطع إيقاف النزيف بكلتا رِجْلَيه. كان وعيه ضعيفا. أُخِذوا إلى مستشفى الأقصى في دير البلح.   
     
في المستشفى رأى رجله اليسرى لأوّل مرّة: كانت مُحطّمة، العظم ظاهر، واللحم مُمزّق. ولمرأى رجْلِه فقد وعيه. خدّروه في المستشفى نقلوه فورا إلى مستشفى الشفاء في غزّة بسبب حالته الصعبة. خضع في مستشفى الشفاء لعملية لمدة ستِّ ساعات لإيقاف النزيف. وبعد أربعة أيّام ساءت حالة رِجْلِه اليسرى فاضطروا إلى بترها من فوق الركبة. 

أُعْطي 24 وجبة دمٍ. وقد قدِّم الطلب العاجل لإسرائيل لنقله للعلاج في رام الله بعد إصابته بساعات ، لكن الطلب رُفِض.
    
اعترضت منظمات حقوق الإنسان بعد إصابته بتسعة أيّام، منظمة عداله الإسرائيلية ومنظمة الميزان في غزّة، وطالبتا بإلزام وزارة الدفاع بالسماح للكرنز ولجريح آخر، محمد العاجوري، بالانتقال إلى رام الله. بالنسبة لمحكمة العدل العليا لم يكن الأمر مُلحّا. وأُعطي الجواب على الاعتراض بعد تقديمه بأسبوع.
   
 كان جواب الدولة بأنه على الرغم " مما تبدو الأمور، وضع الملتمسين يتطابق ظاهريا مع وجهة النظر الطبيّة حسب المقياس العام الوارد في وثيقة الحالات المسموحة، بينما قرار الجهات المسؤولة هو عدم الاستجابة لطلباتهم". لماذا؟ "الاعتبار الأساسي لعدم الاستجابة لطلبات الملتمسين يتعلّق بحالتهم الطبيّة الناتجة عن اشتراكهم بعمليات الإخلال بالنظام". كان هذا الجواب البيروقراطي للدولة، في الوقت الذي كاد خرونز أن يفقد رِجْلَه الثانية. أي أنه، هو المسبب لهذه الحالة. بينما لم يُنظر في الالتماس الخاص بالعجوري أبدا. لأنه أصبح لا لزوم له، بلغة المحكمة، بعد أن أضطر الأطباء في غزّة لبتر رِجْلِه. " كان يُمكِن منع بتر أرجل كليهما لو تحمّلت الدولة مسؤوليتها بموجب القانون الدولي الإنساني" كما قالت المحامية سَوْسَن زهر من عداله، وهي التي قدّمت الالتماس.
     
بتاريخ 16 من هذا الشهر قرر قضاة محكمة العدل العليا أوري شوهم، جورج كرا وياعيل فيرنر بالإجماع أن خرونز مقطوع الرجل والجريح لا يُشكّل خطرا على الأمن ولذلك يمكن أن يُسمح له بالعبور. " لا خلاف على أن العلاج الطبي المطلوب للملتمس لمنع بتر رِجْله غير متوفِّر في قطاع غزّة"، كما قرروا. "وبناء عليه، بموجب الحالات المسموحة، يُدرج الملتمس ضمن الحالات التي يمكن دخولها لإسرائيل من أجل انتقاله إلى رام الله".
      
أيّامه صعبة. يصعب عليه التكيّف لوضعه الجديد كمبتور الرِجْل. بعد وصوله إلى هنا بأربعة أيّام خضع لعمليّة جراحيّة برجْلِه اليمنى، وعلى ما يبدو أنها أُنْقِذَت. ولكن تنتظره شهور للتكيف والتأهيل الطويل والمُتْعِب، في المستشفى التأهيلي في بيت جالا. لقد فقد كاميراته في رمال غزّة. وقبل أن نغادره سألَنا عن رأينا إن كان سيستطيع يوما السيْر على رجل واحدة.