هروب ذوي الكفاءات


بقلم : أمين خير الدين

        
التجنيد الإجباري مرفوض. مرفوض منذ ولادته، وإن كان لا يزال يُفرَض بقانون بغيض، ويجرف الكثيرين من الشباب غير الناضجين فكريا، وهم في بداية اعمارهم تنقصهم الخبرة في الحياة والتجربة.
       
التجنيد الإجباري مرفوض اولا وثانيا... وعاشرا لأسباب قوميّة، وبعد ذلك لأسباب إنسانية وأخلاقية ولأسباب تتعلق بنظافة لقمة العيش من حيث الحلال والحرام.
      
من نتائجه السلبيّة ضياع أهمّ ثلاث سنوات من حياة الشاب، الحياة التي ينبغي أن يبني بها مستقبله وحياته على أساس علمي، مهنيّ متين، يبعث على الاستقرار والحياة النظيفة الكريمة. وعلى لُقْمَة العيش النظيفة من الدم، ومن قهر الضعفاء ومن النهب وسلب الحقوق.
      
تداعياته السلبية كثيرة، منها السير في الطريق الخطأ: معيشيّا وأخلاقيّا وجنسيّا وقوميّا، ومن ظواهره السلبيّة والخطيرة على أصاحبها، وعلى المُجتمع في نفس الوقت، هروب الأدمغة، أصحاب الكفاءات، من حقول الحياة الطبيعيّة النظيفة، البعيدة عن الخطر، والسقوط في الانحرافات الأخلاقيّة، والفهم الخطأ للقيم الإنسانيّة البديهيّة، والعيش في دائرة الخطر.
      
من البديهي أن تُسْتَثْمر طاقات أصحاب الكفاءات في خدمة مجتمعاتهم، التي لها نصيب فيما وصلوا إليه، وتطوير هذه المجتمعات، وتثقيف أبنائها وتوجيههم، لأنهم -- أي أصحاب الكفاءات – صفْوَة هذا المجتمع وقادته نحو القيم والأخلاق والتطوّر والخروج من كبوات الحياة.

     
 فالطبيب مثلا صاحب مهنة إنسانيّة، يخدم نفسه وعائلته ومجتمعه والإنسانيّة من خلال سمّاعة الطبيب (الستيتوسكوب) ومبضع جراحته، أكثر بكثير مما يخدم من خلال ثكنة عسكريّة، هذا إذا كانت ثمّة أيّة خدمة من خلال ثكنة عسكريّة.

 والمهندس. سواء كان معماريّا أو كهربائيّا أو ميكانيكيّا أو إلكترونيا أو ....، مكانه خدمة مجتمعه ليبني ويشيّد ويعمل ويوجِّه ويثقف ويبحث، وليس في ثكنة عسكريّة، لأنه في الثكنة العسكرية لا يعطي كما يعطي في مجال العمل المدنيّ الطبيعي.
     
 وطبيب الأسنان، والطبيب النفساني، والعالم النفساني، والاجتماعي، والمحامي والحامل لأيّ لَقَب جامعيّ، مكانه المعاهد العلاجيّة، أو الدراسيّة أو الأبحاث أو التثقيفيّة.
      
إن في هروب الكفاءات ظاهرة مقْلِقة، لإن هروب الكفاءات إلى العَسْكَرة يدل على ضحالة فكرية، وأنيميا مبدئية واختلاط في فهم القيم الأخلاقية، كمفهوم الحق مثلا، كثيرون يتلاعبون بالكلمات فيدّعون أنّ الحقّ نسبيٌّ، يتناسَوْن أن الحق المطلق لا يُفسر بتفسيرين، مثلا حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مقاومة الاحتلال، أيّا كان هذا الاحتلال، وحقّ الدفاع عن النفس أيضا، وحق كسر أطول حصار في التاريخ. هذه حقوق مُطلقة، تناضل من أجلها الشعوب – وهذا حقّها، ويتعاطف معها أصحاب الفكر الراقي عالميا وحضاريّا، وذوو المبادئ الإنسانيّة. وانخراط المهندس و المحامي أو الطبيب في جيش يقاوم أبسط الحقوق معناه افتقار لهذه المبادئ الإنسانيّة الراقية، وانحياز للباطل الذي يتنافي مع الثقافة والعلم ومع الدين والأخلاق، ومعنى هذا أيضا أن الطبيب أو المهندس أو الأكاديمي يتبنى مبدأ ميكيافيلي "الغاية تبرر الواسطة" وهو مبدأ بعيد عن الإنسانيّة المتحضرة.
      
من الطبيعي أن الدول التي تهوى الحروب، الدول التي ما أن تخرج من حرب حتى تبدأ بالتجهيز ماديّا ومعنويّا وإعلاميّا وفكريّا وبالتحضير لحرب قادمة، من الطبيعي ان مثل هذه الدول تجنّد كثيرا من الإغراءات كالراتب والرُتْبَة، والمنصب والمركز الاجتماعي والألقاب والحوافز الماديّة والجنسيّة، مما يسيل له لعاب الشاب غير الناضج فكريّا، فيغوص في وحل خدمة عسكريّة، تجعل من لُقْمة العيش لقمة غير نظيفة، ملطّخة بكثير من دم الأبرياء أو صحاب الحق، لقمة مكتسبة عن طريق كعب البندقية والغطرسة والسلب والنهب، هذا إلى جانب العيش في دائرة الخطر الذي يقضّ مضجع ألأب والأمّ والزوجة والابنة والابن والجدّ والصديق والجار وابن القرية.
     
 ينبغي بأصحاب العقول والكفاءات أن يكونوا سدّا منيعا أما البسطاء من الشباب، كي لا ينجرف هؤلاء البسطاء إلى هاوية العَسْكَرَة، بالقدوة الحسنة والمثل الأعلى، وإذا كان التجنيد شرّاٌ لا بُدّ منه، فليكن لأقصر ما يمكن من حيث الزمن، مع الاحتفاظ بالقيم والمستوى الملائم، وبعيدا عن القهر والظلم والتعدّي.