قصة بعنوان الياسمينة بقلم الكاتبة أسماء الياس البعنة قضاء عكا

الياسمينة


عندما بدأ حديثه معي.. كان يردد لسانه بدون انقطاع خطفوها ومن ثم قتلوها... عندما التقيت فيه في محطة القطار... كان الجو شديد البرودة.. وكنت أتدثر بمعطف سميك وشال ألف فيه عنقي.. وكان المطر غزيراً... والرياح كادت أن تخطف مني مظلتي التي تحميني من الأمطار كأنها تجمعت حتى تسقط بهذا اليوم بالذات.. وصلت لمحطة القطار وأنا الهت كأني كنت أعدو بسباق العدو... دخلت وأنا العن المطر وفصل الشتاء.. فقد كنت من صغري اكره فصل الشتاء...

 وأفضل أكثر فصل الصيف... فقد كان المطر قد بلل أطراف ثوبي.. لكن عند دخولي لمحطة القطار شعرت بنوع من الدفء المنبعث من أجهزة التدفئة المنتشرة بهذا المكان الرحب... والذي يضيق من البشر رغم اتساعه.. وعند المدخل صادفت شاباً جميلاً يبدو صغيراً بالعمر. لكن علامات الحزن التي كانت تكسو وجهه.. كانت تعطيه عمراً أكبر مما يبدو عليه.. كان يقف وحيداً هكذا بدا لي.. كانت يداه تلهو بسلسة أظن بأنها كانت من فضة.. وعيناه كان فيهم شيء من الحزن.. كانت دقات قلبي ما زالت غير منتظمة من البرد الذي لحقني... 

وكنت ما زلت أرتجف والمطر ما زالت رائحته في خياشيمي.. ولأنه معروف عني بأني إنسانة لا تترك شيئاً دون أن تحلله.. وأستشف أغواره ..قررت الاقتراب منه. ربما أعلم سر هذا الحزن القابع على تقاطيع وجهه.. وثيابه التي بدت لي غير منظمة.. كأنه القاها عليه كيفما اتفق... دون أن يتنبه بأنها لا تلائم بعضها البعض... دققت في وجهه حاولت أن أستشف شيئاً من خلال تقاطيع وجهه المبعثرة.. مع العلم أني شديدة الذكاء ... لكن كنت كمن ينظر للسماء ويتكهن هل سوف تمطر اليوم أو أنه سيكون الطقس مشمسا دافئاً يبعث على الراحة..

 احترت كيف ابدأ معه الحديث.. ولأني ذكية في اختلاق أي حديث بأي موضوع كان... قررت الهجوم مثل غازي يريد القتال دون أن يحسب كيف ستكون النتيجة.. وبينما كنت بين "حيص وبيص".. فاجئني بطرح السلام.. – قال لي هل تعرفينني من مكان ما.. لأني أراك تحدقين بوجهي كمن تشبهين علي.. عندها تجرأت وبدأت أتحدث معه بطريقة جعلته يرتاح لي من أول حديث... – قلت له لقد شد انتباهي وجهك لغة جسدك التي توحي لكل من يراك بأنه أصابك مكروه.. أو مصيبة كبيرة..

 كادت تسقط من عيونه دمعه.. لكنه تحاشى ذلك.. بدأ يحدثني بينما نحن بانتظار طابور المنتظرين لقطع التذاكر...

كان المطر يعصف بالخارج.. وكان الدفء قد بدأ يسري بجسدي النحيل.. خلعت معطفي ومن ثم القيته على يدي... نظرت له نظرة بأن يبدأ حديثه الذي شدني.. حتى أني طلبت منه بعد أن نعتلي القطار نكمل حديثنا بكل راحة...

وهكذا كان بدأ حديثه الذي يتلخص:

مثله مثل أي شاب عشق فتاة... كان بيتها قريباً من بيته.. طفولتهم كانت مثل أي طفل بالعالم.. براءة وحب الاستكشاف لعوالم كانت عنه خفية.. ذهبوا للمدرسة سوياً.. لم يتأخر يوماً واحداً عن المدرسة.. كان نشيطاً ذكياً.. فقط لأنه أراد أن يثبت لنفسه أولاً وللجميع بأنه يستطيع أن يحدث تغيير بعالمنا الواسع... رغم أنه كان يعلم بأن من الصعب تغيير عالم لوحدك... لذلك كان دائماً يجند الكثير من الأصحاب والشباب من جيله... كان هو من النوع المحارب الذي لا يترك شيئاً دون أن يغوص بأعماقه حتى يصل لنتيجة مرضية له بالأساس... كان حلمه أن يصبح عالم بأسرار الكون... ويكون من الأشخاص الذين يخلد أسمائهم... كان حلمه وهذا ما سعى إليه منذ صغره.. ولأنه يعلم تمام العلم بأن الأحلام إذا لم نسعى لتحقيقها ستبقى مجرد حبر على ورق.. ولأنه كان قارئ ومحب للاطلاع على كل أنواع العلم... ولأنه كان دائما يبحث على أشخاص أثروا بالحياة... وحسنوا جودتها... لذلك قرر أن يكون موضوع دراسته بهذا المجال... وعندما فكر أي الموضوعات هي الأقرب لقلبه وعقله... كان ان اختار موضع الفلك..

علم الفلك[1] هو الدراسة العلمية للأجرام السماوية (مثل النجوم، والكواكب، والمذنبات، والنيازك ،والمجرات) والظواهر التي تحدث خارج نطاق الغلاف الجوي (مثل إشعاع الخلفية الميكروني الكوني). وهو يدرس تطور الأجرام السماوية، الفيزياء، والكيمياء، والحركة، بالإضافة إلى تكون وتطور الكون. ويعد علم الفلك أحد العلوم القديمة...

بينما يهتم علم الفلك النظري بصياغة نظريات وتطوير نماذج للعمليات الفيزيائية التي تجري في مختلف الأجرام السماوية من نجوم ومجرات وتجمعات المجرات وانفجارات أشعة غاما التي تحدث في بعض النجوم، وحسابها بالحاسب الآلي أو النماذج التحليلية في محاولات للتوفيق بين الحسابات مع ما تؤتي به القياسات لفهم وتفسير مختلف الظواهر الفلكية وتأثيرها على الأرض والإنسان. ويكمل الفرعيين بعضهما البعض، حيث يسعى علم الفلك النظري إلى تفسير النتائج الرصدية والظواهر الفلكية، وتكون المشاهدة العملية التي نحصل عليها من الرصد هي الحاكم على صحة النتائج النظرية.

إن ما يهم الإنسان أن يعرف كم هو عمر الكون، وكيف نشأ ؟ وكم بلغ عمر الشمس؟ وإلى متى سوف تمدنا الشمس بالحرارة والحياة؟ وكيف تكون نهايتها؟ ومتى؟ وهل سيبقى مدار كوكب الأرض حول الشمس كما هو أم سيتغير مداره في المستقبل؟

وهكذا بدأ مشواره مع التخطيط لمستقبله... ولا بد أن تشاركه بهذا المستقبل فتاة عشقها أحبها دون كل بنات جيلها....
كان حديثه شيق عذب مما شدني له، وأكثر ما شدني فيه تلك الثقة التي يمتاز بها...

كان حديثه دو شجون... يجعلك تتنهد وتحبس دموعك.. تتأثر بكل ما مر في حياته من معاناة... وبين كل فترة كان يصمت وينظر من النافذة.. وقد كان منظر المطر وهو يتساقط على زجاج النافذة يثير في شجون.. كنت أحياناً أغرق بالتأمل... وهذه عادة قد رافقتني منذ طفولتي...

عاد لوجهه الهدوء وتلك الابتسامة التي حاول اخفاءها ظهرت من جديد فأنارت وجهه الجميل... فبدا لي كأنه بدر بليلة صيفية خالية من الغيوم...
 كانت ملامحه تتبدل كلما تعمق بالحديث.. كأن فيه شيء قد قسم نصفين.. ومن الصعب اصلاحه.. فقد كان من شدة قلقه يفتعل حركات يجعلك تتأكد بأن لديه كلام يملأ بئر عميق..

  لكن رغم كل ذلك الحزن كان فيه شيء جميل، صوته هادئ كالنسيم، وجهه مثل البدر... احساسه شفاف.. وذلك الهدوء الذي بدأ يتسرب لجوانحي.. جعلني ابدأ بتدوين كل كلمة كان ينطقها... حتى أوثقها وتكون مرجع لكل العشاق..
بدأ حديثه يتشعب مما جعلني ادخل لأغوار نفسه البريئة التي لم يلوثها الزمن..

حدثني عن مراحل طفولته.. التي كانت مرحة جميلة فهو ابن وحيد مع ابنتين جميلتين مثل فراشات الربيع... فقد احتفل والده بمولده يوم بشرتهم الداية بانهم رزقوا بطفل ذكر... كاد يجن فرحاً كيف لا وهو الوريث لاسم العائلة... وهو الذي سوف يساعد والده بالحقل وبالزراعة... ابن جميل أعطاه اسم عادل... فكان يتمنى أن تنتشر العدالة بهذا العالم المطحون الفقير لكل شيء اسمه إنسانية... واصبح كل شيء فيه مباح... حتى اهانة الانسان والدوس على كرامته... فكان عادل وكان عند اسمه...


كان طالب مجتهد مما جعل كل المعلمين فخورون فيه.. دائما كان الأول.. لهذا لقب بالطالب المجد المجتهد... لم يكن لديه أعداء.. فقد كان طوال عمره محبوباً حتى كل من عرفه كان يحترمه ويتقرب منه حتى ينول شرف صداقته...

  أنهى مرحلة الثانوية... كانت مرحلة مهمة بلا شك لأنها بداية لمرحة أهم... وهي الجامعة... ذلك العالم رحب الأرجاء.. كان يشده دائما مبنى الجامعة الواسع... وذلك العالم الكبير الذي يتمنى أن يكون احد رواده... كانت أحلامه كبيره... تمنى تحقيقها والوصول لأعلى درجات العلم... وعد نفسه قبل أن يوعد حبيبته الذي أطلق عليها اسم زهرة الياسمين.. بأنها ستكون فخورة فيه... مثلما هو يفتخر كونها الفتاة الوحيدة التي أحبته رغم وضعه المادي الصعب..

 والذي كان يختلف عن وضعها.. فقد كانت بنت لرجل اعمال يمتلك عدة شركات.. لكن محبتها له قد تعدت كل المقاييس... أحبته لأنه يمتاز بشخصية جذابة...

 ولأنه لبق بالحديث تعامله مع الآخرين لفت انتباهها... فقد كان مؤدب محترم قليلون أمثاله.. مما جعلها تنظر له مثل من ينظر لتحفة غالية يصعب شراؤها...

 كان هو يبادلها المشاعر لكن بتحفظ... خوفاً من الفارق الاجتماعي.. الذي هو السبب الرئيسي الذي جعله يضع حد بينهم... لكن هذا الشيء لم يمنعه من أن يعشقها... كان عشقه لها مختلف.. فهو أحبها لحنان قلبها.. لدفاعها عنه كلما اختلفت مع اسرتها كونهم يعلمون بأن قربهم لبعض ومحبتهم الظاهرة للعيان تقوى على مر الأيام.. كان دفاعها عنه دليل على أن هذا الحب أصبح بأعلى درجاته... رغم أنه ينحدر من أسرة فقيرة لا يمتلكون سوى بيت صغير وقطعة أرض يزرعونها بالخضار والفاكهة الموسمية... لكنهم ربوا ابنهم " كل شبر بنذر" كما يقول المثل العربي... كان دفاعها عن حبيبها يجعل والدها وأخوتها يجنوا منها... كانوا أحياناً يعاقبونها بأخذ مفاتيح السيارة منها.. واحياً يلغي والدها كارت الفيزا... ولكن لا شيء من ذلك كان يؤثر فيها.. كان تصميمها وعنادها يجعل والدها يجن.. لا يعلم بأي حيلة يردعها... حتى تتخلى عن حبيبها... لكن رغم كل تهديداتهم ووعيدهم بأنهم سوف يحبسونها في مكان لا تطاله شمس ولا هواء... لم يحرك لديها شيء من الخوف.. كانت مصممة على الحرب من أجل من أحبته أكثر من روحها...

 فقد اختارها الحب قبل أن تختاره.. فقد كانت تؤمن وتردد بينها وبين نفسها... بأن كل شيء في حياتنا قسمة ونصيب... وهذا نصيبها هذا حبيبها الذي قدمته لها الحياة.. فهل ترفضه؟ لم تكن تجرؤ على التفكير حتى بان تتخلى عنه من اجل أباها أو أخوتها.. كان تشبتها فيه يجعلها أكثر قوة.. وأكيد اكثر جمالاً.. فهي الفتاة التي تحسدها معظم الفتيات كونها تحوي الجمال والمال والحبيب الأجمل.. لذلك كانت سعيدة منفتحة على هذا العالم الذي كانت تراه ضيق إذا قارنته بمحبة حبيبها عادل.. محبته كانت تجعلها تشعر بأنها تعيش أفضل سنوات عمرها... ومن حقها وهذا الحق ضمنه لها الدستور والقانون.. فكيف تتخلى عن هذا الحق أن تكون عاشقة...

ولذلك قررت أن تذهب لمن كان دائما حليفها الوحيد الذي ساندها ووقف بجانبها بكل مشكلة كانت تصادفها...
كان الجد من طرف والدتها... كان حنون طيب يحبها لأنها كانت شبيه لجدتها التي توفت أثر مرض عضال..

لذلك كانت محبتها بقلب جدها لها المكانة الأولى... فهي المدللة ومطلبها أمر يستجاب بالحال... وكيف إذا كانت هذه المشكلة مشكلة قلب كسير حزين... كاد يجن الجد عندما روت له أنعام " وهذا اسم بطلة قصتنا" قصة معاناتها مع اسرتها والدها وأخوتها.. ( باعتبار هي البنت الوحيدة بين خمس شباب).

وعندما قرر الجد التدخل بهذه القضية... وجد نفسه أمام عقول خشنة متحجرة.. تفرض سيطرتها رغم أننا نعيش بالقرن الواحد والعشرين..
 ولكن تلك الصعوبة لم تثنيه.. ولم تقف حائلاً بينه وبين هذه القضية التي اعتبرها أكثر من أن تكون قضية انسانية بحتة...

 وهكذا بدأ الجد برسم خطة حتى تكون باب لمدخل قلب الأب القاسي.. حتى على ابنته...
هناك عقول من الصعب أن تلين حتى المشاعر الانسانية تخلو منها...

كانت خطته بسيطة وهي: استدراج الوالد الذي يدعى "حسان جبر" حتى يجلس مع الشاب ويتعرف عليه عن قرب... حتى يلغي من رأسه تلك الأفكار القديمة... التي عفا عليها الزمن وشرب...

 وهكذا كان تدخل الجد كان السبب بالمزيد من عناد الوالد... عندها قرر الوالد حبس ابنته بغرفة لا يوجد فيها غير باب... أقفل عليها الباب.. رغم توسلات الجد والوالدة سميرة.. لكن لم يجدي شيء...

بعد يومين فتحوا الباب عليها وجدوها جثة هامدة... ماتت... بعد تشريح الجثة وجدت أثار عنف عليها.. وكان الاب قد طعنها عدة طعنات بصدرها حتى لفظت أنفاسها...

كتبت الصحف قصة الفتاة انعام التي قتلت على يد والدها...

واقيمت مظاهرات رفعت من خلالها لافتات تدعو هذا المجتمع بكل اطيافه حتى يحارب العنف ضد النساء...

واقيمت ندوات وبرامج تلفزيونية... لكن كل ذلك لا يفيد إذا لم نغير نحن طريقة تفكيرنا... ونعطي المرأة حقها باختيار شريك حياتها..... وحريتها.....

بقلم الكتابة اسماء الياس... البعنة عكا فلسطين...